أفضل خططي الإستراتيجية لربح المال عبر النت :

خطتي الإستراتيجية لربح المال عبر النت :

فمن هنا  أدفع أقساط التعليم المدرسي ,

o       المرحلة الأولى :

1.     فتح حساب  بريد إلكتروني  "https://signup.live.com/signup.aspx" من أجل تفعيل المواقع
2.     فتح حساب في بنك إلكتروني لسحب المال  "payza  -  Paypal "
3.     فتح حساب فيس بوك لجمع الأصدقاء أو المتابعين .

o       المرحلة الثانية :

  1. البحث عن مواقع الربح عبر الأنترنيت , بشرط أن يكون أدنى السحب هو 1 دولار أو 2 دولار .  لماذا ؟ لكي أعرف من هاته المواقع الصحيحة من النصابة . فالصحيحة سأكمل الإشتغال عليها و النصابة سأقوم بحذفها . حتى أجمع ما تستطيع طاقتي إستعابه من مواقع الربح من النت .

مثال : إن كنت تريد ان تكون تابعا لي , لأن هاته الموقع طبقت عليها   نفس الإستراتيجية و هي موثوقة إلى حد 100 بالـ 100 بل إنها مضمونة الربح   

  1. http://www.clixsense.com
  2. http://www.grandbux.net
  3. http://www.probux.com
  4. http://www.globalbux.net
  5. http://buxvertise.com
  6. http://www.clearbux.com
  7. http://www.zapbux.com
  8. http://www.cupbux.com
  9. http://www.ionbux.com
  10. http://www.clixbox.org
  11. http://www.dignitybux.com
  12. http://likesplanet.com
  13. http://likesplanet.com
  14. http://www.binarybux.com
  15. http://www.ctpcash.com
  16. http://www.frenchiclix.com
  17. http://moonbux.org
  18. http://www.metabux.com
  19. http://www.buxtoptc.com
  20. http://www.clixrage.com
  21. http://www.karateclix.com
  22. http://www.twickerz.com
  23. http://www.visitzen.com
  24. http://www.fabbux.com
  25. http://www.koopabux.com
  26. http://www.onebux.net
  27. https://clicks-fx.com/advertising_store
  28. http://www.thebuxer.com
  29. http://www.ref4bux.com
  30.  http://www.prubux.com
  31. http://www.99centsptc.com
  32. http://www.matrix-ptc.com
  33. http://click-btc.com/index.php

  1. فهنا تبدأ المرحلة الصعبة و هي إستقطاب تابعين لك . " فهنا تختلف الأفكار " .
الفكرة الأولى : أن تفعل مثلما فعلت حتى إستطعت إستقطابك لتكون تابعا لي .
الفكرة الثانية  : دفع المال للأشخاص ليكونوا تابعين لك .
الفكرة الثالثة  : إستعانة بمقاهي الأنترنيت , يفضل أن يكون لذيك مدكرة لحفظ جميع المعطيات التي قد تحتاجها .
1.    فتح 10 حسابات بريد إلكتروني في حاسوب واحد . و يفضل أن يكون حاسوبك الشخصي .
2.    بحث عن 10 مقاهي أنترنيت الموجودة قربك .
3.    تختار المقهى الأول , و البريد الإلكتروني الأول .
4.    تقوم بالتسجيل في جميع مواقع الربح التي جمعتها .
5.    عدم نسيان تأكيد الحساب فورا .
6.    كل مرة تسجلت في موقع ربح ما , يجب تسجيل معطياتك الخاصة في مذكرتك

7.    تقوم بالخطوات "3-4-5-6" عشر مرات وكل مرة بحساب مختلف وفي مقهى مختلف .
 

يوغوف سراج YouGov Siraj






معلومات عن الشركة : 
هي شركة عالمية مقرها في بريطانيا مهتمة بالقيام باستطلاعات لمؤسسات او دوائر حكومية وتعتمد على اراء المشتركين امثالي في الحصول على النتائج .
صاحب هذه الشركة هو نديم الزهاوي مواطن بريطاني من اصول عراقي فاز بمقعد في مجلس العموم البريطاني في اخر انتخابات 


كيفية الربح من هذه الشركة : 
هو ان الشركة ترسل لك استطلاعات تقوم انت بالاجابة عليهة مقابل كل استطلاع دولار واحد . عند بلوغ مجموع رصيدك 50 دولار يقوم الموقع بارساله لك عن طريق البنك الالكتروني او اي شيك يتم ارساله لك الى صندوق بريدك العادي


كذلك فهناك سحوبات على جوائز اخرى كأجهزة اي بود نانو 8 جيجابيت



لعبة جماعية مجانية بشخصية (MMORPG)



لعبة جماعية مجانية بشخصية (MMORPG) - لا تحتاج الى تحميل اي شيء! يمكنك بدئ اللعب بعد التسجيل فوراً. في هذه اللعبة ستتمكن من الأختيار بين 11 شعب مميز، استخدام استراتيجيات معقدة في الوقت الحقيقي و تدريب اكثر من 16 وحدة حرب و الات فك حصار مختلفة، 11 وحدة مميزة، بناء الكثير من المباني المختلفة و غيرها من الخاصيات الرائعة. كل هذا يضمن لك متعة من الدرجة الأولى، لكن احذر التحدي فسيتعبك قليلاً، فينتظرك تحدي الاف اللاعبين الاخرين المنتشرين في جميع انحاء العالم.



شركة متخصصة فى مجال الفوركس .


تعد شركة cmstrader سي ام اس تريدر واحدة من أهم الشركات الرائدة عالميا˝والمتخصصة فى مجال الفوركس و تجارة السلع والمعادن النفيسة . توفر الشركة تقنيات تكنولوﭼيه متطورة ومريحة و تؤمن لك تنفيذ للأوامر لا يقارن ، وكما توفر لك أفضل المنتجات وأقل فروق إنتشار فى سوق الفوركس وكل ذلك تم تحديده بواسطة فريق محترف من خبراء سوق الفوركس و البرمجيات، وذلك بهدف خلق أفضل مناخ مرن ومفصل للتداول المحترف عبر الأنترنت من خلال حساب واحد و منصتين للتداول .
خدمة العملاء توفر لك الدعم على مدار الساعة 
بالإضافة إلى ذلك فإن سي ام اس تريدر تكافئ عملائها من خلال إمدادهم بتجارب المتاجرة الفريدة وهذا إلى جانب الإلتزام بأرقى معايير تنفيذ عمليات التداول و الشفافية فى التسعير و أدوات المتاجرة المرنة و المتطورة التى توفرها الشركة وبالامكان رؤية ذالك من خلال حساب التداول التجريبي مما يجعل دوما˝من سي ام اس تريدر cmstrader واحدة من أفضل الوسطاء فى سوق الفوركس .
توفر الشركة طريقة بسيطة للتداول والإستثمار عبر نمصة تداول أجنماعية فريدة من نوعها ةالتي تعرض متداولين اخرين عبر الشركة مما يؤمن لك أسرع وأبسط إستخدام لمنصة التداول وذلك لن تجده سوى لدينا فقط ، كما أن شبكة التواصل الإجتماعية الخاصة بالتداول لدينا تعطى لك فرصة جمع خبرات من كافة المتداولين و الذين يصل عددهم إلى 1.5 مليون متاجر مما يمكنك من التعلم والتفاعل معهم بل وأيضا˝يمكنك ذلك من نسخ عمليات تداول تناسبك قام بها هؤلاء من قبل.
نحن نوفر لك كل ما تحتاج إليه حتى تصبح متاجرا˝ناجحا˝ذلك لأنك جزء من المجتمع الإستثمارى العالمى.
احصل على جميع أدوات التداول اللازمة لك حتى تنجح وتوسع دائرة عمليات التداول المحتملة
بالنسبة لك نحن أكثر من أن نكون مجرد أكبر شبكة إستثمار فى العالم ذلك لأننا شبكة العمل الإستثمارى الخاصة بك
نحن نقدم للمستثمرين عدة ضمانات وشروطات غير متوفرة لدى باقي الشركات, وعودنا للمستثمرين تعكِس التزامنا بعرض اجود الخبرات في المتاجرة بالعملات والمعادن عبر الحاسوب . عند الاتجار بتداول العملات والمعادن عبر الحاسوب عن طريق سي ام اس تريدر بالإمكان التاكد انه سيتم الحصول على ما يلي:
• ايداع فوري لحساب التجارة بواسطة بطاقة الائتمان
• منصة تداول خلال شبكة أجتماعية فريدة من نوعها والحائزة على جوائز عديدة من قبل اهم المواقع عالميا 
• البدء بالتجارة خلال دقائق
• فرق ثابت ومحدد بين سعر الشراء والبيع
• عرض دائم للاسعار من البنوك دون تجميدها
• عرض اسعار قابلة للتنفيذ - فقط بالضغط على زر الشراء والبيع
• نلتزم بتنفيذ اوامر وقف الخسارة وتحديد الربح بالنقطة المحددة باوضاع سوق عادية*
• نظام حماية لوقف الخسائر وعدم تراكم الديون
• خدمة دعم للمستثمرين لا مثيل لها على مدار 24 ساعة
• فتح حساب تجارة بمبلغ $500.
• امكانية دخول التجارة بدون تنزيل اي برامج
• ايداع فوري لحساب التجارة ببطاقة ائتمان
أنضم للتداول مع شركة CMSTrader ولا تضيع الفرصة










الاتجاه الانتروبولوجيا
البدايات الأولى للتنظير الأنثروبولوجي

خلال القرنين 15 و16 كان الرحالة الأوربيون قد جلبوا معهم لدى عودتهم من أسفارهم معلومات جديدة عن شعوب ما كان للأوربيين سابق معرفة بها. وخلال القرون اللاحقة امتدت حركة التوسع الكشفي التجاري والاستعماري التى خرج معها العالم الأوربي من مكتبات جامعاته ليتجول في أصقاع غير مكتشفة له ليصل إلى إدراك حقيقة إخوة له من بنى الإنسان يختلفون عته مأكلاً ومشرباً وسلوكاً. فكانت الدهشة الأولى: إنهم “البدائيون” الذين تكتشفهم الأنثروبولوجيا الجديدة. وبعد أن لبس العالم ثوب البدائي وحكى لغته وعاش معه لفترات…كانت الدهشة الثانية. هذا “البدائي” ليس متخلفاً كما صورته المعلومات المختزنة في العقل الأوربي منذ فترات…إن له طريقة حياته التى تختلف عن حياة الأوربي، وله منطقه الخاص. وبعد جولات جديدة جاءت دهشة ثالثة…يختلف منطق “البدائي” عن منطق الأوربي، لكنه منطق متماسك، إن له عالمه الخاص المتماسك بقيمه وبمنطقه وشعائره وطرق إيمانه.

هكذا أخذت في الظهور كتابات يؤلف بعضها خامة جيدة لدراسة بعض العناصر الثقافية. من أهم تلك الكتابات الدراسة الضخمة المكونة من أربعة مجلدات قام بوضعها المبشر الفرنسي الأب جوزيف لافيتو في النصف الأول من القرن الثامن عشر نتيجة تجربة خمس سنوات قضاها بين أفراد الهنود الأمريكيون الإيروكيز في شمال شرقي الولايات المتحدة الأمريكية. انتهت دراسة لافيتو إلى أن التنظيمات الاجتماعية عند الإيروكيز تساوى التنظيمات البدائية لبنى الإنسان. واكتشف لافيتو وجود تشابه بين النظام الأمومي عند الإيروكيز مع ذلك النظام ما قبل التاريخى الذى وصفه هيرودوت (480-425 ق.م.) عند سكان ليكيا في آسيا الصغرى. ولكون لافيتو حاول تفسير وجود هذا التشابه باحتمال انتشار هذا النظام من آسيا الصغرى إلى أمريكا فإنه يجوز عد لافيتو من أوائل القائلين بمبدأ الانتشار الثقافي diffusion of culture.

أثارت كتابات لافيتو والرحالة والمبشرين الذين سبقوه من أمثال بارتولوميو دى لاس كازاس (1502)، تاجر الرقيق الذى تحول إلى الرهبنة والتبشير في أمريكا الوسطى، والدببلوماسى النمساوي سيجموند هربرشتاين الذى كتب عن الروس والفينو-اوجريين (1577)، وشيفر الذى كتب عن النظم الشامانية في شمال سكاندنافيا (1675)، ودابر الذى سافر كثيراً في أفريقيا وكتب عن الأفارقة وعاداتهم (1686)، وبينز كالب الذى وضع مؤلفاً عن شعب الهوتنتوت (السان) في جنوب أفريقيا (1700) وغيرهم، أثارت رد فعل بين الفلاسفة والمفكرين الأوربيين في القرنين 17و18 والذين حاولوا صياغة قوانين عامة يمكنها أن تشرح بطرق طبيعية تطور المجتمعات البشريَّة عبر مراحل من التقدم. وشكلت أعمال أولئك الفلاسفة والمفكرين الأساس الذى نشأت عليه التطورية الثقافوية اتجاهاً نظرياً في الأنثروبولوجيا في القرن 19 بخاصة لدى لويس هترى مورغان وادوارد برنت تايلور.

ففي إيطاليا قدم جيامباتستا فيكونظريته حول الدورة (1668-1744) التاريخية التى يشير فيها إلى أن المجتمع لا بدَّ أن يتطور وفقاً لقوانين داخلية معينة. طبقاً لذلك رأى فيكو أن كل أمة تمر بثلاث مراحل في تطورها: المرحلة الإلهية، والمرحلة البطولية، والمرحلة الإنسانية، وهى مراحل تمثل دورة الحياة الإنسانية- الطفولة والشباب والنضج. وتمثل الدولة التى لا تنشأ إلا في المرحلة البطولية، سيطرة الأرستقراطية. ويحل محل الدولة في المرحلة الإنسانية مجتمع ديمقراطي تنتصر فيه الحرية و”العدالة الطبيعية”. ويتبع هذا، وهو ذروة التقدم الإنساني، انهيار بحيث يعود المجتمع إلى حالته الأولى الإلهية، ثم يستأنف حركته الصاعدة مجدداً لتبدأ دورة جديدة.

تظهر بعد ذلك تأملات شارل دى مونتسكيو (1689-1755) التى تجعله من مؤسسي نظرية الحتمية الجغرافية بادعائه أن السيماء الأخلاقية للشعوب وطابع قوانينها وأشكال حكوماتها يحددها المناخ والتربة ومساحة الإقليم. في كل عمل مونتسكيو تنتشر فكرة أن القوانين تؤلف نظاماً “ثمة أشياء عديدة تحكم الناس: المناخ والدين والقوانين والمبادئ الأساسية للحكومة وأمثلة الأشياء الماضيَّة والطبائع والآداب”. قد تبدو اللائحة للوهلة الأولى مجرد تعداد، لكن مونتسكيو يدخل معياراً يسمح بتمييز الطريقة التى تؤثر فيها هذه الضغوط المختلفة على الأنواع المتباينة للقوانين. كلما كان التمايز في المجتمع أقل، كلما كان الأساس “التشكلى” (المناخ والبيئة والبنية الديموغرافية) أكثر إلزاماً. كلما كان الناس أكثر “تمدناً” كلما ازداد استناد قانونية النظام الاجتماعي على القوانين والطبائع والآداب. يميز مونتسكيو التعابير الثلاثة، لكنه يميز أولاً الاثنين الأخيرين عن الأول. إن الصين حيث ينم الانتظام عن طريق “الآداب” و”العبادات والطقوس”، تختلف عن إسبارطة حيث الأولوية كانت دائماً “للطبائع”، أي لقواعد السلوك إزاء الآخر. فبعد أن ميز بينها يعود فيجمع الطبائع والآداب التى يضعها معاً في مواجهة القوانين التى هي “أعراف أقرها المُشرع”. إن الشعوب الحرة هى التى يحكمها القانون، في حين أن البلدان التى تسيطر فيها الطبائع والآداب تكون عرضة للاستبداد والطغيان. لكن الضبط عن طريق القوانين هو نفسه معقد وموضع خلاف. صحيح أن الحرية السياسية، كما يوحى بذلك مثل إنجلترا، يمكن أن تنتج طبائع وآداب حرة في نطاق التجارة والحياة الخاصة. ولكن يمكن أن يحصل كذلك، كما في إسبرطة وروما، أن لا تكون القوانين إلا اصطناعا من المُشرع الذى يسعى إلى استعادة “العادات القديمة”، أي إلى استعادة الطبائع والآداب، سلطة كانت قد فقدتها. وبما أن قوانين كل بلد تشكل نظاماً، فإننا نستطيع أن نقارن بين هذه البلدان. يقارن مونتسكيو إنجلترا بروما، والصين باسبرطة، لكنه يبدى حذره لكي يحدد تحت أية علاقة يقارنها، يمكن لمجتمعين أن يتشابها تحت علاقة ما، في حين أنهما مختلفان تحت علاقة أخرى.

ونادى آن روبير جاك تيرغو (1727-1781) بالفكرة القائلة بأن تقدم المجتمع يرتبط ارتباطا وثيقاً بتطور الحياة الاقتصادية. وكان تيرغو يعترف بأهمية النمو الاقتصادي وتقدم العلم والتقنية لما فيه صالح التطور الاجتماعي، واعتقد بأن “الناتج الصافي”، أي فائض القيمة يتم خلقه في مجال الإنتاج لا في مجال التداول، وقدم بعض الأفكار عن التقسيم الطبقي للمجتمع وجوهر الأجور.

أما جان أنطوان كوندورسيه (1743-1794) ففقد دعا إلى طرح الخرافات جانباً وتطوير المعرفة العلميَّة. يتصور كوندورسيه التاريخ نتاجاً للعقل الإنساني معلناً بأن النظام البورجوازي هو قمة المعقولية و”الطبيعة”. قسم كوندورسيه التاريخ إلى عشر فترات على أساس الصفات الاتفاقية، وأخذ على عاتقه مهمة تبرير أن الرأسمالية تضمن تقدماً لا نهائياً. وعارض كوندورسيه نظام المقاطعات الاجتماعية، وحارب من أجل المساواة السياسية داعياً إلى استئصال الحكم الدكتاتوري وإلى التطور الحر للفرد. لكنه اعتقد في الوقت نفسه أن عدم المساواة فيما يتعلق بالملكية أمراً مفيداً.

وأقام كلود هنرى سان سيمون (1760-1825) مبدأ الفلسفة الطبيعية، أى دراسة الطبيعة في مواجهة التقاليد المثالية بخاصة المثالية الألمانية. واعتنق الحتميَّة بصورة حاسمة ومدَّ نطاقها إلى تطور المجتمع البشرى موجهاً اهتماما خاصاً بدعم الفكرة القائلة بأن التاريخ تحكمه قوانين. وكان يعتقد أن التاريخ لا بدَّ أن يسهم في التقدم البشرى بالقدر الذى تسهم به العلوم الطبيعية. فكل نظام اجتماعي هو خطوة للأمام في التاريخ. ولكن القوى المحركة للتطور الاجتماعي هي تقدم المعرفة العلمية والأخلاق والدين. وبالتالي فإن التاريخ يمر بثلاث مراحل: لاهوتية (وهى فترة سيطرة الدين) وتشمل النظامين العبودي والإقطاعي، وميتافيزيقية (وهى فترة سقوط النظامين العبودي والإقطاعي)، ووضعية (وهى النظام الاجتماعي المستقبلي القائم على العلم). وقد ساعده مفهومه الاجتماعي على أن يبين أن كل نظام اجتماعي ينبثق انبثاقا طبيعياً من التطور التاريخى السابق له. وسوف يقوم المجتمع المستقبلي على أساس صناعة واسعة النطاق منظمة تنظيماً علمياً، ولكن مع الاحتفاظ بالملكية الخاصة والطبقات، وسوف يكون الدور الرائد فيه من نصيب العلم والصناعة وسينهض به العلماء ورجال الصناعة. وينبغي أن يعطى حق العمل لكل إنسان كل حسب قدرته.

وفي عام 1859 ظهر عمل شارلس داروين (1809-1882) “أصل الأنواع” الذى جاء إيذاناً باندلاع عاصفة لم تنقشع حتى يومنا هذا. لقد تم بفضل عمل داروين تفسير لغز الأنواع: الأنواع غير ثابتة بل هي متحولة تطورت عن أنواع أخرى عبر بميكانيزم الاصطفاء الطبيعي. وشرح داروين في كتابه المذكور مفهوم التطور في خمس نقاط يمكن اختزالها في الآتي:

أولاً، أن كل الأنواع قادرة على إنتاج نسل بصورة أسرع مما هو عليه الحال بالنسبة للزيادات في إنتاج الطعام.

ثانياً، تظهر كل الكائنات الحية تنوعات، فليس هناك من فردين للنوع الواحد متشابهين تماماً.

ثالثاً، بما أن عدد الأفراد الموجودين أكثر مما يفترض بقاءه فإن صراعاً مريراً ينشأ تكون الغلبة فيه لأولئك الأفراد الذين يؤلفون نوعاً إيجابياً كماً، وقوة، ومقدرة على الجري أو أية خصائص إيجابية أخرى ضرورية للبقاء.

رابعاً، تنتقل تلك التنوعات الإيجابية بالوراثة إلى الجيل اللاحق.

خامساً، تنتج تلك الأنواع الناجحة، على مدى فترات من الزمن الجيولوجي، اختلافات تؤدى إلى ظهور أنواع جديدة.

وكان العلماء في وقت سابق يرون في الأنواع وحدة غير متغيرة إذ أنه إذا تبدلت الأنواع فلن تكون أنواعاً. فالأنواع كانت، إذن، في أساس المناقشات حول النباتات والحيوانات ولم تكن للأفراد أهمية في داخل الأنواع. من هنا صَعُّب على العديد من العلماء رؤية الكيفية التى يمكن بها حدوث التغير. وكان داروين يرى أن تنوع الأفراد هو ما قد يفسر كيفية حدوث التغير. التنوعات الأكثر كفاءة تم اصطفاءها عن طريق الطبيعة للبقاء بينما الأقل كفاءة تم استثناءها. ومن ثم فإن مفكري علم السكان أصبحوا يؤكدون على تفرد كل شئ في العالم العضوي. الأهم بالنسبة لهم هو الفرد لا النوع. إنهم يؤكدون على أن كل فرد من الأنواع التى تعيد إنتاج نفسها جنسياً هو نوع مختلف فرداً عن كل الآخرين. ليس هناك فرد نموذجي في تصورهم. وقد تم التأكيد على تفرد الفرد (أي التنوع الذى يحدث في كل المجموعات السكانية- بمعنى أن السكان هم مجموعة من الأفراد المتفاعلين، لا نوعاً) وهذا هو ما قاد داروين إلى مفهوم الاصطفاء الطبيعي ميكانيزماً مكن التطور من أن يكون فاعلاً. فالاصطفاء الطبيعي يفعل في الأفراد، إيجاباً أو سلباً، لكن السكان هم الذين يتطورون. وحدة الاصطفاء الطبيعي أصبحت انطلاقا من هذا الفهم هى الفرد بينما أصبح السكان هم وحدة التطور.

هكذا فإن نظرية التطور في الطبيعة الحية كما صاغها داروين يمكن اختزالها في أن العوامل الرئيسة في تطور الكائنات الحيَّة هي التحول والوراثة والاصطفاء الطبيعي. الأصلح بين الكائنات الحية هو وحده الذى يبقى ويتكاثر في الصراع من أجل البقاء تحت تأثير البيئة الخارجية. ويُحسن الاصطفاء الطبيعي بصورة مستمرة بنيان الكائنات العضوية ووظائفها دافعاً قدرتها على التكيف مع الأشياء الخارجية المحيطة…هكذا لم يعد العلم بعد داروين كما كان عليه أبداً.



الاتجاه التطوري: البدايات الأولى

على قاعدة هذا التقدم الفكري والعلمي المحقق في القرن 18 والنصف الأول من القرن 19 بدأ ظهور الأنثروبولوجيا الحديثة مفهوماً وموضوعاً ومنهجاً. ففي الفترة 1860-1880 انبثقت التطورية الثقافوية اتجاها نظرياً رئيساً في الأنثروبولوجيا. كان مؤلف باخوفن “حق الأم”، ومؤلف هنرى مين “القانون القديم” الذين صدرا كلاهما في عام 1861 باكورة مؤلفات المدرسة التطورية في الأنثروبولوجيا. أعقبهما في عام 1865 مؤلف تايلور “أبحاث في التاريخ المبكر للجنس البشرى”. وفي عام 1869 ظهر مؤلف مورغان “أنظمة القرابة والمصاهرة في الأسرة البشرية”. وظهر مؤلف تايلور “المجتمع البدائي” في عام 1871، ومن ثم مؤلف مورغان “المجتمع القديم” في العام 1877.

أحرزت الأنثروبولوجيا بمفهومها الحديث وتوجهها النظري التطوري تقدماً ملحوظاً منذ النصف الثاني من القرن 19 تحديداً مع بدايات الحركة الإمبريالية التى مكنت الكثير من دول أوربا الغربية في فرض سيادتها على العديد من المجتمعات غير المعقدة والمنعزلة جغرافياً وثقافياً، وهى المجتمعات التى أطلق عليها الأنثروبولوجيون في المراحل السابقة تسميات متنوعة: “المجتمعات البدائية” و”الطبيعية” و”المتوحشة”. أتاحت حركة التوسع الإمبريالي الغرب أوربي الفرصة لعلماء الأنثروبولوجيا الأوربيين التعرف على العديد من المجتمعات غير المعقدة والمنعزلة جغرافياً ودراستها وتحليل بنياتها الثقافية والاجتماعية. وقد دفعهم إلى ذلك عدة أسباب نذكر منها: (1) محاولة ربط ما تم الكشف عنه من معطيات نتيجة تقدم أعمال التنقيب الآثارى في مواقع ما قبل التاريخ الأوربية والعالمية بثقافات الجماعات “البدائية” المنعزلة وذلك عن طريق التعرف على بنياتها وعاداتها وتقاليدها وطقوسها الدينية وفنونها الخ. (2) اختبار الفرضيَّات القائلة بكون تلك الثقافات “البدائية” المعاصرة تمثل المراحل الأولى للتطور الثقافي لبنى الإنسان عموماً، أي تسخير الدراسات الأنثروبولوجية للتعرف على خصائص أنماط الحياة البدائية بحسبانها نموذجاً حياً معاصراً من أنماط الحياة السابقة “الطبيعية” في المراحل التاريخية الوحشية والبربرية..”الاهتمام من ناحية اجتماعية على جماعة الفلاحين البدائيين الذين تختلف حياتهم عن طرق حياة الأوربيين والحضارة الغربية..دراسة هذه الجماعات البدائية ليست مثيرة فقط ومهمة للمشتغلين في البلدان المختلفة، ولكنها تنير طريق دراسة العادات والمعتقدات الأوربية”. (3) نتيجة لما توفره تقارير الرحالة والمبشرين عن تلك الجماعات التى عاشوا وسطها وتعرفوا على ثقافاتها، سعت الدراسات الأنثروبولوجية إلى سد النقص في سلسلة المعارف والمعلومات عن مجتمعات غير غربية يختلف نمط حياتها عن نمط الحياة الأوربية. (4) سياسياً تساعد تلك الدراسات السلطات الاستعمارية في إحكام قبضتها على المجتمعات المقهورة المستعمرة إدارياً…”لقد قمنا بدراسة شعوب الأراضي المنخفضة بشكل لم يقم به منتصر آخر، وبشكل لم تدرس أو تفهم فيه قبيلة خاضعة للسيطرة. فنحن نعرف تاريخهم وعاداتهم وحاجاتهم ونقاط ضعفهم بل وأحكامهم المسبقة، وهذه المعرفة الخاصة قد أتاحت لنا توفير قاعدة للإرشادات السياسية التى يمكن ترجمتها بالحذر الإداري والإصلاح اللازم في حينه، وهذا ما يرضى الرأي العام”. (5) استغلال الأنثروبولوجيا لأغراض “الاستعمار العلمي”..وصف شروط الوجود البدائي في المرحلة السابقة لدخول الاستعمار، بحيث تصف نمط هذا الوجود قبل أن يصار للقضاء عليه، أو تتناول وصف شروط هذا الوجود كما خلقه الاستعمار، أى يتحول حقل الأنثروبولوجيا إلى دراسة التغير الاجتماعي أو “التثاقف”.

من أهم ما يميز النصف الثاني للقرن 19 هو سيادة نظرية التطور الداروينية. من خلال الداروينية نمت الأنثروبولوجيا الفيزيقية نمواً هائلاً. في فرنسا قام بول بروكا بفصل جمعية باريس الأنثروبولوجية في عام 1859 عن الجمعية الاثنولوجية التى كانت قد أنشئت منذ العام 1939. وفي بريطانيا أنشأ جيمس هنت الجمعية الأنثروبولوجية البريطانية. وظهرت في فرنسا دراسات بوشيه دى برث عن آثار ما قبل التاريخ التى تم الكشف عنها في وادي السوم والتي تركت تأثيراً كبيراً على تقدم الاتجاه التطوري الثقافوى في دراسة الثقافات الإنسانية. وفي ألمانيا بدأت الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة على يد تيودور فايتز الذى أكَّد في الجزء الأول من كتابه “أنثروبولوجية الشعوب الطبيعية” الصادر في عام 1858(قبل عام من نشر عمل داروين) على أن اختلاف الشعوب فيما بينها يرجع إلى تأثيرات البيئة عامة والمناخ خاصة، وإلى نوعية الغذاء ونمط الحياة وإلى التطور الثقافي والطفرات. ويؤكد فايتز أن كافة الشعوب قد بدأت من درجة الصفر: الإنسان الطبيعي بدون مدنية. ويؤكد أن الاختلافات في درجات التطور لا ترجع إلى هبات أو قدرات عقلية، فهذه متساوية عند جميع الناس. نجمت الاختلافات عن اختلاف الفرص التى هيأتها الظروف الطبيعية وخاصة المناخ والموقع الجغرافي والعلاقات التاريخية.

وتعرض فايتز لمبدأ الانتشارية في مواجهة النشأة المستقلة لكثير من العناصر الثقافية المتشابهة. وأشار إلى ظاهرة الكوفادة التى يتكرر ظهورها في مجتمعات متباعدة جغرافياً: أفريقيا، وإقليم الباسك الأسباني، والأناضول القديمة، وأندونيسيا، وأمريكا الجنوبية. ولم يحاول فايتز تفسير الكوفادة أو غيرها من الظواهر الثقافية. يميل فايتز عموماً إلى مبدأ الانتشارية بخاصة عند معالجته للتشابهات الثقافية الكبرى مثل تلك الملاحظة بين كل من أمريكا الشمالية وسيبريا، والهند وبولونيزيا. ويؤكد أن التشابه في نظام تقسيم السنة عند الآسيويين والمكسيكيين يعود إلى الانتشار رافضاً احتمال استقلالية النشأة في كل من المنطقتين على حدة. ويحدد مسار حركة الانتشار من آسيا إلى أمريكا عبر مضيق بيهرنج مع عدم استبعاد لإمكنية حدوث الانتشار من آسيا إلى المكسيك عبر جزر المحيط الهادي مباشرة.

وفي عام 1861 ظهر كتاب عالم الأنثروبولوجيا النمساوي يوهان ياكوب باخوفن (1815-1887) المعنون “حق الأم”. وضع باخوفن في هذا الكتاب تتابعاً زمنياً لنظم الزواج والأسرة والميراث والتركيب الاجتماعي. وتتلخص آراء باخوفن في أنه كانت هناك عدة مراحل أقدمها مرحلة “الاختلاط الجنسي”، تليها مرحلة ثورة المرأة على هذه الأوضاع وتأسيسها لما يسمى بمرحلة النظام الأمومي الذى تثبت فيه صلات الأمهات بالأبناء، ويسمى باخوفن هذه المرحلة ب”الأمازونية”. ويربط باخوفن هذا النظام بمجموعة من الوظائف الاجتماعية: الأسرة الأمومية، والنسب الأموي، والإرث الأموي، ونظم دينية تسيطر عليها آلهة الأرض، وتقوم فيها النساء بدور رئيس في النظام الكهنوتي، بالإضافة إلى شيوع عادات وطقوس الخصوبة. وأخيراً يسيطر القمر (بصيغته مؤنثاً) على الشمس. ثم تأتى المرحلة الثالثة حيث تسقط وظيفة المرأة السياسية والدينية ويحل محلها النظام الأبوي. وتظهر في هذه المرحلة الأسرة الحقيقية وتسيطر آلهة السماء على آلهة الأرض والشمس على القمر. لكن بقايا النظام الأمومي لا تزال تظهر في بعض العناصر الثقافية مثل نظام وراثة ابن الأخت للخال (وهو ما كان سائداً في كوش حتى بداية عصرها الإسلامي)، ونظام الكوفادة، ونظام الزواج الأموي المكان ..الخ.

ولا شك أن المراحل الثلاث تلك هي مجرد تركيب نظري بحت بخاصة المرحلة الأولى. وقد اعتمد باخوفن على كتابات هيرودوت عن النظام الأمومي في ليكيا. ورغم أن لافيتو كان قد سبق باخوفن في دراسة النظام الأمومي كما أسلفنا، فإن دراسة الأول كانت ذات طبيعة تاريخية محضة لتطور النظام عند الإيروكيز، هذا في حين جاءت دراسة باخوفن نابعة عن وظيفة النظام الأمومي ودوره في التركيب الاجتماعيer.










انتروبولوجيا العالم الاسلامي

يقول ريتشارد أنطون: Richard Antoun إنّ تطوّر أنثروبولوجيا الشرق الأوسط مرَّ بأربع مراحل(1): مرحلة سيطرة المستشرقين، ومرحلة سيطرة الرحالة والإداريين السياسيين في العصر الاستعماري، أي الأنثروبولوجيين الهُواة، ومرحلة سيطرة علماء الأنثروبولوجيا المحترفين، وأخيراً مرحلة سيطرة الأنثروبولوجيين المحليين.

ويعنينا هنا بالتحديد أن الاستشراق كان المصدر الأول للبدايات التأملية الأنثروبولوجية في الشرق الأوسط. في تلك المرحلة كان المستشرقون (حتى منتصف القرن التاسع عشر تقريباً) علماء للعهدين القديم والجديد، أو مبشِّرين، وفي أفضل الحالات علماء بالدراسات السامية أو هواة رومانطيقيين(2). ومن أجل ذلك يربط "إدوارد سعيد" بين الاستشراق والأنثروبولوجيا ليس في النشأة؛ بل في المادة التي اعتمداها، ثم في أنهما علمان استعماريان أو نشآ في مرحلة الاستعمار ولخدمته. لكنْ لا يصحُّ الخلْطُ في هذه الحقبة، أي مطلع القرن التاسع عشر؛ بين مادة العلم ومنهجه أو موضوعه. فالأنثروبولوجيا في القرن التاسع عشر علمٌ وضعيٌّ متطور، كان قد بدأ بملاحظاتٍ وجمع معلومات في أميركا الشمالية والجنوبية، في القرنين السـابع عشر والثامن عشر، ثم عمل على التعميم والتصنيف في الوقت نفسه، فهـو فعلاً وليد حقب الاستعمار، وإن حاول الاستقلال عنه في السبعين سنةً الماضية(3). أما الاستشراق فقد ارتبط في البداية البعيدة بمحاولة الكنائس البروتستانتية ثم الكاثوليكية أن تعرف أكثر عن موطن المسيح، وأن تعرف أكثر عن المسلمين(4). وقد خضع التخصص منذ البداية لإرغاماتٍ في مفاهيمه للحقيقة، ثم في علاقته بتطور العلوم التاريخية والاجتماعية، وأخيراً في علاقته بالاستعمار والسلطات الاستعمارية. مفاهيم الحقيقة فيه خضعت لإرغامات لأنّ صورة فلسطين والشرق كان ينبغي أن تُطابقَ الواردَ في العهدين القديم والجديد. ولهذا فطَوَالَ القرن التاسع عشر، وحتى الربع الأول من القرن العشرين ظلّت دراساتٌ كثيرةٌ تتراوحُ بين اعتبار الإسلام مسيحيةً محرَّفةً أو يهوديةً منحرفةً؛ فتُريح نفسها بذلك من الاعتراف بالتغيير في المنطقة بعد عصور الإنجيل(5). لكنْ في الوقت الذي كان فيه الاستشراق يتعمَّقُ بين دراسة اللغات السامية القديمة، واستكشاف المعالم والآثار، وكتابة التاريخ كان العهدان القديم والجديد يتحطمان تحت وطأة الدراسات الـنقدية: التاريخية والأثرية والألسنية، فتنفصل الدراسات اللاهوتية، والأخرى النقدية عن الاستشراق، ويصير الاستشراقُ تدريجياً اختـصاصاً في فيلولوجيات وتاريخ الإسلام والشرق الإسلامي وشعوبه وثقافاته. ومع هذا الانفصال حاول الاستشراق أن يكون أحد العلوم التاريخية، فاقترب مرةً أُخرى من الأنثروبولوجيا مع فارقٍ أساسيٍّ في المنهج. فالمنهجُ الأنثروبولوجيُّ منهجٌ تأصيلي يفسِّرُ المشتركات بين البشر بالعودةِ إلى الأصل المفتَرض رمزاً أو حقيقةً أو تاريخاً أو فسيولوجيا– بينما التاريخانيةُ التي تعتمد الفيلولوجيا النصية، والتطورات التاريخية، هي التي تسودُ في الاستشراق. على أنّ الأمر الأكثر تعقيداً يتصل بعلاقة الاستشراق بالسلطة أو بالأحرى السلطات الاستعمارية. ففي حين كانت إشكالية الأنثروبولوجيا مزدوجةً أو مركَّبةً من ازدواجين كان هناك ازدواجٌ من نوعٍ آخر في الاستشـراق. في الأنثروبولوجيا كان هناك ازدواجا البدائيِّ في مواجهة المتحضِّر، والمستعمَرِ في مواجهة المستعمِرِ. بينما كان الأبرز في الاستشراق بحسب سعـيد وطلال أسد ومدرسة نقد الاستعمار النقيض الثاني: مستعمِر/مستعمَر. فحتى بعد الاستقلال، كان الاستشراقُ يُمارَسُ في دوائر الجامعات التي أنتجت الأطروحات الأساسية عن المجتمعات غير الأوروبية، وغير الحديثة بالمقاييس نفسها. وإدوارد سعيد، وميمي وفرانز فانون وكلاستر وغوشيه (وغيرهما من محرِّري مجلة Libre ) يرون أنّ هذه الثنائية مهمة وأساسية في فهم أُطروحات الاستشراق الأسـاسية. وفي الواقع فقد كانت هناك محنة منهجية – إذا صحَّ التعبير-؛ ذلك أنّ الإصرار على تاريخانية الاستشراق أو اعتباره جزءًا من تخصص الشرق القديم والوسيط، أو جزءًا من تاريخ العالم -أوشك أن يُلحقه لدى الماركسيين الدوغمائيين أو الرسميين بالمراحل الأربع المعروفة؛ فلا يبقى ما يمكن فعله. ومن جهة ثانية؛ فإنّ الإصرار على خصوصية الإسلام تاريخاً وثقافةً، يُديننا مرةً أُخرى من اعتبار المسلمين كائنات أنثروبولوجية ما خضعت للتطور التاريخي. وقد استمرَّ هذا التجـاذُب والجدال؛ أو بعبارةٍ أخرى التساؤل عن الاستشراق، وهل هو علمٌ أم لا، إلى أن ظهرت مدرسة الحوليات، ومدرسة التاريخ العالمي، فصار ممكناً دراسةُ هذه المنطقة من العالم بطريقةٍ سياقيةٍ لا تُنافي ذاتيتُها عالميتَها. ولعلّ خير دليلٍ على ذلك دراسات مارشال هودجسون وفرنان بروديل وجانيت أبو لُغد. الأولى بـعنوان: "مغامرة الإسلام: الوعي والتاريخ في حضارةٍ عالمية"، والثانية بعنوان: "البحر المتوسط في عهد فيليب الثاني". والثالثة بعنوان: "ما قبل الهيمنة الأوروبية" وقد قام الباحثون هؤلاء بدراسة الحضارة الإسلامية، والتاريخ الحضاري في سياق التاريخ العالمي المُزامن، أي في القرون ما بين الثالث عشر والثامن عشر للميلاد(6).



II



أوضح أنور عبد المـلك في دراستـه الرائدة: الاستشراق في أزمـة (1963)(7) أنّ المشكلة في التخصص الاستشراقي مزدوجة. هناك أولاً النقد الاستعماري، الذي يعتبر الاستشراق بطرائقه الفيلولوجية والتاريخانية من مواريث عصر الاستعمار. وهناك ثانياًً النقد العلمي الذي يعتبر أن الاستشراقَ لم يفد من الثورة الحاصلة في العلوم الاجتماعية والتاريخية. وجاءت دراسةُ إدوارد سعيد عام 1978(8) ساحقةً لجهة أنها أثبتت (أو أقنعت بذلك) أن الاستشراق تخصُّصٌ استعماريٌ، أي أنه نشأ في حضن الاستعمار، ونقل أُطروحاته، أو أنه حشر الإسلام والشرق في صورةٍ أشبعت وتُشبع طموحات الغرب ومطامعه في استعمار، واستمرار امتلاك الإسلام ومن طريقه العالم الإسلامي.

إنّ الذي لم يتنبّهْ له إدوارد سعيد وأنور عبد الملك والعرْوي وبراين تيرنر وآخرون - أنه في الوقت الذي كانوا يسعون فيه لتحطيم الاستشراق، بحجة إمبرياليته أو قصوره أو الأمرين معاً، كان ذاك التخصُّص أو المجال يتعرض لتفريغٍ واختراقٍ تدريجيين، أفضى لتحوُّله إلى أحد أربعة أمور: نـزوع ألسُني يبدأ بمسائل نقد النص، ويصير إلى شكلٍ من أشكال التفكيك – أو بقاء على ما كان عليه مع تسميته نفسَه دراسات إسلامية أو شرق أوسطية – أو دخوله ضمن دراسات التاريخ العالمي – أو تحوله إلى أنثروبولوجيا. ولأنّ التوجُّهَ الرابع أو الأخير، المتدامج مع التوجه الألسُني الأول، هو الأكثر ظهوراً في العقدين الأخيرين؛ فسأقوم بتتبُّع بعض وقائعه وصولاً للعام 2002م.

عندما بدأ إدوارد سعيد يجمعُ المادَّة لدراسته عن الاستشراق، كان إرنست غلنر Ernest Gellner يُصدرُ دراسته عن الأصولية الجزائرية. وإذا عرفنا أن ذلك كان عام 1972 م، أدركنا كم كان الرجل سبَّاقاً في الاستشعار. وتوالت دراساتُهُ عن الإسلام بعد ذلك في السبعينات والثمانينات وحتى منتصف التسعينات (ت. عام 1995م). وقد جمع أهمَّها في كتاب: المجتمع المسلم(9). ومع اتساع تأثيره، كثر تلامذتُهُ أو متبنُّو فهمه للإسلام وتطوراته؛ وبخاصةٍ بعد تفاقم ظاهرة الحركات الإسلامية، وصعود الإسلام السياسي، بوصفه يقدّم نظريةً جاهزةً فيها شيءٌ من التبسُّط والتبسيط، لتلك التطورات. وأثارت دراسات غلنر رؤىً مناقضة أو مخالِفة لدى أنثروبولوجيين آخرين أهمُّهم كليفورد غيرتز Clifford Geertz، وزملاؤه من أمثال جيلسنان Gilsenan، وأيكلمان Eickelman - في حين استمرت مدرسة Libre، واستمر طلال أسد، وجيرار لكلرك، وفرد هاليداي وسامي زبيدة(10) في النظر إلى الأنثروبولوجيا في إطار النقد الاستعماري، كما استمروا جميعاً يفسّرون الظواهر في ضوء هذه المقولة. وانفرد طلال أسد بنشر نقدٍ جذريٍ لأطروحة "أنثروبولوجيا الإسلام"(11).

يرى غلنر أن الجوهر الأصليّ للإسلام أنه دينٌ نصيٌّ أُخروي، يتميز بنزوعٍ طهورّيٍ شديد. هذه الطهورية يخفّفُ من حدَّتِها وحروفيتِها التقليدُ الأكثريُّ للسُنة في صورة توازنٍ بين الأعراف المدينية والسلطة والعلماء. لكنْ في الأزمات الاجتماعية أو السياسية؛ وعندما تصل الأزمة إلى الثقافة، يعود النصُّ للبروز، ويظهرُ علماء منشقُّون أو متشدّدون يتسلَّحون بالنصّ من أجل استعادة الطهورية أو البراءة الأُولى؛ ولن تستعادَ البراءة الأصلية المفترضة طبعاً لكنْ في التقابل بين المدينة والقبيلة فازت المدينة؛ وبقيت الشرعية لدى العلماء، حراس النصّ ومسؤوليه، والقائمين على حياة الجماعة الشعائرية والعُرفية، في مواجهة السلطة المهزوزة لدولة القوة والضرورة. وقد تكونُ الأزمة الحالية تعبيراً عن تقبُّلٍ للحداثة بهذه الصيغة المعقَّدة؛ فلكي تتمكن من الثبات لا بد أن تتغيَّر قليلاً ! والمناضلون الأصوليون هم في هذا السياق- بحسب غلنر- أولئك الذين يعيدون قراءة النصّ لتجديد التقليد، والدخول في العصر.

ويختلف غيرتز(12) مع غلنر في رؤيته العامة للإسلام. فبحسب غيرتز لا يمكنُ أن يحدث تغييرٌ ما في المجتمع أو الثقافة إذا ما أخذنا برؤية غلنر حول الدورات المكرورة على النصّ الواحد والمجتمع الواحد مع بقاء الجوهر ثابتاً، كمـا يزعم غلنر. بل الأحرى القول: إنّ المجتمع الإسلامي مثل سائر المجـتمعات موَّارٌ شديد الحركة والتغير. أما البنى والثوابت البادية فهي رموزٌ، تبقى عناوينها وتتغير معانيها، وتنقطعُ أو تتضاءلُ علاقاتُها بالواقع في الأزمات فيظهرُ التشدُّد بسبب توتُّر المقدَّس. فليس هناك مجتمعٌ عالميٌّ إسلامي؛ بل هناك مجتمعات إسلامية وتقاليد إسلامية متعددة لا تجمعُها إلاّ رموزٌ ومقدَّسات عليا، تُظهر وحدةً أو شبه وحدةٍ في الوعـي؛ لكنْ لا علاقةَ في الواقع بين ما يحدُثُ في المغرب، وما يحدُثُ في إندونيسيا. وتحدث التطورات الاجتماعية والثقافية في المجتمعات الإسلامية مثلما تحدث في المجتمعات الأخرى التي لا تدينُ بالإسلام.

غلنر وغيرتز هما الشخصيتان اللتان سادتا ما عُرف بأنثروبولوجيا الإسلام في العقود الثلاثة، الأخيرة. وفي حين مال شبانُ المستشرقين في الأكثر إلى رؤية غيرتز أو رؤية كلاستر ولكلرك وطلال أسد، مضت قلّةٌ قوية باتجاه رؤية غلنر، لأنها مباشرة، ويمكن استعمالُها بطريقةٍ أسهل في حكمٍ سريعٍ على الإسلام(13). وهذا هو في الحقيقة السبب في اختراق الأنثروبولوجيا ليس للاستشراق وحسْب؛ بل لكل العلوم التاريخية، والمنظومات التفسيرية والتأويلية. فالأنثروبولوجيا تملكُ دعوى النظرية الشاملة التي يمكنُ لها أن تفسّر كلَّ شيءٍ في الظاهرة أو الدين أو الثقافة. والحقُّ أن غلنر يعرضُ استثناءاتٍ كثيرةً (الدولة العثمانية عنده استثناء؛ إذ كانت السلطـة السياسيـة فيها – بعكس نظريته – أقوى من الثقافة أو المؤسسة الدينية)، ويتحفّظ، ويضيف، ويحذف؛ لكنْ ما يهمُّ الناقلين المتسرعين عنه أو عن غيرتز الرؤية الأساسية.

على أيّ حال، في العام 1977م ظهرت دراستان استشراقيتان افتتحتا مرحلةً جديدةً في مجـال تجاوُز الاستشتراق الكلاسيـكي. أُولى تلك الدراستـين عنوانها: "دراسات قرآنية " لجون وانسبورو John Wansbourough. وثانية تينك الدراستين اسمها: "الهاجرية" تأليف باتريشيا كرون ومايكل كوك Patricia Crone , Michael Cook. أما وانسبورو فيخضع النصَّ القرآنيَّ لمبادئ وآليات "نقد النصّ" في العهدين القديم والجديد. فينتهي به الأمر في كتابه الثاني: بيئاتٌ منقسمة (1979م) إلى أنه ما كان هناك في القرنين الهجريين الأولين قرآنٌ ولا نصٌّ إسلاميٌّ من أي نوع. وأما كرون وكوك فلا يصدّقان أي شيءٍ في المصادر الإسلامية عن القرنين الأولين من الهجرة النبوية. باعتبار أن تلك النصوص –بما فيها القرآن– مزوَّرة وضعها أهلُ السنة بعد أن صاروا إمبراطوريةً، أي أنّ الإمبراطورية العربية (بالاشتراك مع طبقة العلماء) هي التي صنعت الدين الإسلاميَّ ونصوصَه. ولذلك يلجأ الباحثان إلى المصادر والمراجع اليهودية والمسيحية الموروثة عن القرنين السابع والثامن للميلاد، أو التي يُزعَمُ أنها كذلك، ومنها رؤىً نشورية، للتعرف على أصول الدين الإسلامي، والتاريخ الأول للإسلام. وقد صدرت لكرون عدةُ نصوصٍ ودراساتٍ بعد ذلك مع زملاء آخرين، أو بمفردها، تنحو المنحى نفسه(14). وهي تأخُذُ عن ماكس فيبرMax Weber قوله بقوة الدولة وضعف المجتمع والثقافة في الإسلام – كما تأخذ عن غلنر القول بأُصولية الإسلام ونصوصيته، أي الاستعصاء على التغيير: لكنْ لماذا يستعصي الإسلامُ على التغيير، إذا كان قد اخترع هو نفسه واخترعت نصوصُه في القرن الثاني الهجري؟ تقول كرون: لأنه إذا نحَّى النصوص هذه أو غيَّرها فسينكشف أنه لم يكن ديناً متماسكاً؛ بل كان شراذم نصّيةً يهوديةً ومسيحيةً؛ ويهوديةً على الخصوص(15)!

عدَّلت كرون من آرائها في العقد الأخير. واستعادت النصوص العربية لديها سلطتها إلى حدٍّ ما واحترامها ولغير سببٍ أيضاً، لكنّ تلامذتها وتلامذة كوك ووانسبورو كتبوا في العقدين الأخيرين مئات النصوص في نقد النص القرآني أو السنة النبوية أو السيرة النبوية؛ بحيث صارت الدراساتُ الإسلامية في بعض الجامعات الأميركية والبريطانية هواجس وتخمينات و"اكتشافات" في نطاق اللامفكَّر فيه من قبل. فوجود النبي محمد أقلُّ ثبوتاً من الناحية التاريخية من وجود المسيح. والسيرة النبوية تقليدٌ لسيرة موسى أو أنها حواشٍ على القرآن كُتبت بعد ظهور القرآن في القرن الثاني. والسنة مكذوبةٌ كلُّها، وما عاد منها لأوائل القرن الثاني مأخوذٌ عن اليهود والنصارى. والفقه الإسلامي في أصوله الأولى روماني ويهودي ومحلي ولا علاقة له بالقرآن أو بالسنة.

وما بقيت هذه الدعاوى دون ردودٍ طبعاً من دارسين آخرين(16). لكن الشديدي الإيجابية من بينهم وصلوا بالأمور إلى أوائل القرن الهجري الثاني، وقالوا: إنهم لا يعرفون شيـئاً عما حدث من أيام دعوة النبي وحتى مطلع القرن الثاني الهجري: فما دامت النصوص الواردة باعتبارها من القرن الأول ليست مسجَّلةً عندما قيلت على رقٍّ أو برديٍّ أو صخرٍ، فمعنى ذلك أنها ليست قديمة أو منحولة ومتأخّرة، أو أنه ينبغي التوقف دون إثباتٍ أو نفي.

III

أولُ مساوئ هذه النقدة الجذرية طوالَ العقدين الماضيين تضاؤل العروض الجدية والشاملة عن الحقبة الإسلامية المبكرة. فالمسائل المبحوثة من القرن الأول، ومن عصر النبي والراشدين، في العقدين الأخيرين دقيقةٌ وتفصيلية، وتعتمد النقض والتفكيك؛ ليس بسبب تطورات الدراسات النصية والتاريخية وحسب؛ بل لسواد مقولة أنه لا شيء ثابت من تلك الحقبة، ولا بد من إعادة النظر في كل شيء. وثاني مساوئ تلك المقولات والمقالات: تعليم الشبان من الدارسين الجدد الاستخفاف بالنصوص المهمّة والمبكّرة من مثل تاريخ الطبري أو طبقات ابن سعد أو صحيح البخاري، بوصفها زائفةً، أو لا يصـحُّ الأخذُ بها على عِلاّتِها. بيد أن أسوأ من ذلك كلِّه هو مصير الاستراتيجيين، والمختصين بالشرق الأوسط المعاصر، ومعلّقي الصحف والمجلات السيارة، إلى استخدام مقولات التفكيكيين والتأصيليين بوصفها دراساتٍ ومقولاتٍ علميةً. فقد أدّت أحداث السنوات الماضية الحافلة بالصراع على الحركات الإسلامية، وحركات الإسلام السياسي – منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م، و مقتل الرئيس السادات عام1981 م وحتى أحداث11 سبتمبر2001م، وغزو أفغانستان، والحرب الكونية على الإرهاب (الإسلامي)، والحرب على العراق أخيراً– إلى صيرورة الإسلام موضوعاً شعبياً مثيراً، مع ما يتفرع عن ذلك من حديثٍ حول طبيعته العنيفة أو الجامدة والسياسات الضرورية إزاءه، وطبائع ومصائر الجاليات الإسلامية الملتزمة بالدين، في الغربين الأميركي والأوروبي، ومنظر ومظهر الحكومات العربية والإسلامية في الغرب. في هذه الموضوعات كلِّها تؤخذُ آراءُ الخبراء، وما أدراك ما هؤلاء الخبراء! فقد صدرت مقالة هنتنغتون عن "صدام الحضارات" في الفورين أفيرز farigen ahairss شؤون خارجية، شتاء العام 1993م، وعندما ذهبتُ بعدها في خريف العام 1994م إلى جامعة هارفرد للتدريس، أرادني هنتنغتون أن أُشارك في ندوةٍ معه حول الموضوع، وعندما سُئل عن مصادر رأيه عن الإسلام ذَكَرَ غلنر وبرنارد لويس Bernard Lewis. ولويس تاريخاني، أي أنه ما يزال من أتباع المدرسة القديمة في الاستشراق، لكنه - وبسبب الحاجات السوقية المتزايدة للتعرف على الإسلام - كتب خلال العقد المنقضي خمسة أو ستة عروض شبه شعبية، توصلُ إلى النتائج نفسها التي أوصلت إليها آراء المتأثرين السطحيين بأنثروبولوجيا الإسلام. قال لويس مثلاً في كتابيه الأخيرين: كيف حدث الخلل؟ (2001م) وأزمـة الإسـلام(2003م): إن العرب يعانون من عقدةٍ معالمها الأساسية: رؤية فشلهم في الحاضر، ومجدهم في الماضي، وحسَد الغرب لنجاحاته. وبذلك فالمرضُ مَرَضُهُم، ولا ذنبَ للغرب فيه. وقد شهدنا في كلام المحافظين الجدد، ومحرري الصحف السيَّارة والمذيعين التلفزيونيين، بعد أحداث 11 سبتمبر عودةً كثيفةً لكتب برنارد لويس عن الإسلام والتاريخ الإسلامي. لكن السائد الآن بين المحافظين والليبراليين على حدٍ سواء كتابان هما: "الإسلام المسلَّح ينال من الولايات المتحدة"، لدانييل بايبس Daniel Pipes (2002)، "وبرجٌ عاجيٌّ على رمال: فشل الدراسات الشرق أوسطية في الولايات المتحدة"، لمارتن كريمر(17) Martin Kramer (2001). ودانييل بايبس في كتابه عن أحداث 11 سبتمبر وتفكير الإسلاميين الذين هاجموا أميركا، يصل إلى أن الإسلام كله أُصولي ومتطرف؛ لكنّ بعض تياراته أكثر تطرفاً من البعض الآخر. وكما لا ينبغي من وجهة نظره تجاهُل التطرف الإسلامي الخارجي في السعودية ومصر وباكستان- لا ينبغي تجاهُل التطرف المنتشر بين الجاليات الإسلامية في الولايات المتحدة وأوروبا. أما كتاب مارتن كريمر فهو هجومٌ صاعقٌ على كثيرٍ من المستشرقين الأميركيين وأساتذة دراسات الشرق الأوسط هناك؛ لأنهم فشلوا في تنبيه الولايات المتحدة إلى خطورة الراديكاليين المسلمين. ويرجع ذلك إلى أنهم – باستثناء برنارد لويس وكوك وكرون وبوول – واقعون تحـت تأثير إدوارد سعيد، ونعوم تشومسكي.

وفـي أوائل العام 2002م أنشأ بايبس وكريمر على الإنترنت برنامجاً سمَّوه: "مراقبة الكامبوس Campus Watch "، المقصودُ من ورائه تتبُّع ما يكتبُهُ أساتذة الدراسات الشرق أوسطية والعلوم السياسية مما لا يعجب اليمينيين أو أنصار إسرائيل. وبايبس هو الذي أثار الضجة حول مايكل سللز Michael Sells، صاحب كتاب "قراءات قرآنية" (2002م) الذي يستعرض فيه مختلف التأويلات لآيات السيف في القرآن، وآيات المسالمة والموادعة؛ إذ زعم بايبس أنّ في إبراز تعددية تفسيرات القتال والعنف في التراث الإسلامي احتقاراً للأميركيين الذين قُتلوا في 11 سبتمبر باسم الجهاد!

سبق لنا أن أصدرنا أربعة أعدادٍ بمجلة الاجتهاد في العام 2001م بعنوان: من الاستشراق إلى الأنثروبولوجيا. وقد راقبتُ والزملاءَ الذين كتبوا في سائرها عمليات التحول تلك من الاستشراق إلى الأنثروبولوجيا عبر ثلاثة عقودٍ ونيّف. وعُدْنا للموضوع في العددين التاليين اللذين صدرا عام 2002م بعد أحداث سبتمبر 2001م. وقد بدا لي وقتَها أنّ استخدام المنهج الأنثروبولوجي لا يعني حكماً أو بالضرورة مزيداً من الانقلاب على الإسلام. فالأنثروبولوجيا تتطور وتتعدد وتتحرر من أكثر المقولات التأسيسية التي ظهرت في المرحلة الاستعمارية.

ثم إنّ المناهج الجديدة في قراءة النصّ، وفي فهم العلاقات بين المتقدم والمتأخّر من النصوص والمقولات- تركت آثاراً عميقةً في الدراسات التاريخية، وفي الصور التاريخية، وفي مفاهيم الحقيقة والواقع، ولن تبقى الدراسات الإسلامية بمنأى عنها، في شتّى الظروف، والمناهج. وأرى أن الطريقة الأنجع للتصدي لكتابة تاريخنا العقدي، والثقافي (بالفهم والاستيعاب والتجاوز) تتمثل في المشاركة الفاعلة والقوية في الدراسات المعاصرة والمناهج المعاصرة دونما خوفٍ أو وَجَل. ويقتضينا ذلك المزيد من المعرفة بالعالم والعصر، ووقائع الحداثة وما بعد الحداثة في العلوم الاجتماعية والإنسانية. فالواقع أنّ الدراسات الإسلامية والعربية بالعرب ما كانت على ما يُـرامُ في ظلّ التاريخانية الاستشراقية لنزعم الآن أنّ غروب الاستشراق، بالمعنى القديم، نكسةٌ لنا.

بيد أنّ هناك أمراً مهمّا يتعلقُ بما يستظهرُهُ فوكو من علائق للمعرفة بالسلطة. فهناك صراعٌ هائلٌ منذ عقود على صورتنا، وعلى حاضرنا ومستقبلِنا عرباً ومسلمين، يبلُغُ الآن إحدى ذُراه، وتُستخدَمُ فيه كلُّ الوسائل؛ بما في ذلك الإسلام والوعي به، والعروبة ومعناها الثقافي والسياسي. ومن هنا ينسحبُ الحاضر على الماضي، أو يسحبُ المهتمون والخائضون لهذا الصراع الحاضرَ على الماضي، فيبدو الإسلام الأول، بالصورة أو الصور التي يظهر فيها الإسلامُ الحالي والعربُ المعاصرون: الانقسام والضعف والشرذمة والتهافُت على المقولات والمنظومات المتعددة والمتناقضة. ففي الحقبة بين 1957م و1967م، حين بدا أنّ العرب قادرون على النهوض والنمو والتوحُّد - ظهرت إيجابياتٌ في دراسة التاريخ الإسلامي، وفي بيان قدرة العرب والمسلمين على تجديد تقليدهم، ودخول العالم المعاصر من بابه الواسع. وأذكر أنّ هاملتون غب وفون غرينباوم وفرتز شتيبات وليونارد بـايندر، هؤلاء جميعـاً (بل برنارد لويـس في كتابه: العرب في التاريخ، قبل ذلك)، كتبوا آنذاك في مبادرة العرب والمسلمين إلى المزاوجة الناجحة بين الحداثة والتقليد. أما مايكل هدسون، فقد انصرف للكتابة في "تجديد المشروعية" في نظام الحكم لدى العرب –خارج أطروحات ماكس فيبر– تحت شعار التغيير والتجديد، والعلاقة الأخرى بين الجمهور والسلطات. واتخذت الأمور مناحيَ منذ منتصف السبعينات من القرن المنقضي، على وقع هزيمة العام 1967م، والفشل في استثمار نتائج حرب أكتوبر عام 1973م، واستعلاء الاستبداد، وانتشار الحروب الأهلية وأيديولوجياتها وقطائعها. وكان من ضمن المتغيرات السلبية (إذا صحَّ التعبير التقييمي هذا)، -تعبيراً عن العلائق المتبادلة بين المعرفة والسلطة- ظهور الأنثروبولوجيا السالبة تجاه الماضي الإسلامي: فما دام العرب بهذه الحالة في الحاضر، فإنّ ذلك يعني أن الحالَ كان كذلك في الماضي البعيد أيضاً. وساد استخدام الرموز السياسية في ربطها بالرموز التاريخية الإسلامية ليس بالضرورة ذلك لدى غلنر أو لويس؛ بل لدى الإنجيليين الجدد، ودارسي الشرق الأوسط؛ ومن بينهم عربٌ كارهون للواقع المرتبط بالماضي وبالأوهام التوتاليتارية في الحاضر. كتب مقدمةً للترجمة الألمانيـة لكتاب كليفورد غيرتـز بعنـوان: "الإسلام بين المغرب وإندونيسيا" نقده فيها استناداً لأطروحة غلنر التي بالغ في تأويلها وصولاً للقول بتحطُّم الإسلام لنصيته وجموده وعجزه عن التغيير والتجدد؛ وبذلك فقد لفَّق بين أطروحتي غلنر وغيرتز بوعي. وله ثلاثة كتب أخرى عن الإسلام تحملُ دائماً في عناوينها كلمة: الأزمة. أما فؤاد عجمي فقد انصبت حملاته على فشل أيديولوجيا القومية العربية؛ إذ لا عربَ هناك. ثم عندما طُلب منه في خريف العام 1993م التعليق على أُطروحة هنتنغتون حول "صدام الحضارات"، طمأَنَهُ إلى عدم خطورة الإسلام، لتشرذمه وانهياره وسقوطه في وجه عواصف الحداثة. ولا يكتم الإنجيليون الجدد كراهيتهم للإسلام بوصفه عدوّاً للمسيحية وللولايات المتحدة. ولويس الذي لم يكن يرى لنا أملاً بالتقدم إلاّ بمغادرة الإسلام كما فعل التُّرك -تخلَّى عن هذه النظرة الآن بعد أن وصل إسلاميون للسلطة في تركيا. لقد تذكر لويس تاريخانيته؛ فذهب إلى أنّ الإسلام التاريخي والتقليدي لا يشكو من شيء؛ بل المشكلة في الوعي العربي والممارسة العربية. وهكذا عدنا إلى مقولة أنّ الإسلام ممتاز؛ لكنّ المسلمين أو العرب هم السيئون




المنــاهــج الكميــــة في البحث السوسيولوجي







مدخل: موقع المناهج ضمن البناء العام للمعرفة العلمية.




أ= تحديدات أوليـــة : العلم، النظرية العلمية، المنهج العلمي...




1- العلم:




تتجاذب عملية تعريف العلم عدة مداخل أو زوايا نظر، من بينها

النظر إلى العلم أولا من خلال: موضوعه (علم طبيعي، علم إنساني..)، أو النظر إليه من خلال منهجه ( مناهج استقرائية، مناهج منطقية- استنباطية..).

ومن بينها كذلك النظر إليه من زاوية الغاية منه: هل هي غاية معرفية\نظرية بالأساس، أم هي غاية عملية تطبيقية بالدرجة الأولى.




و بالإجمال، فقد صار العلم موضوعا للتعريف وإعادة التعريف، تبعا لتطور منجزات العقل البشري، وتبعا لتطور المعرفة العلمية ذاتها. وإن الاهتمام بالعلم كموضوع للتعريف هو ما تنصب عليه الإيبستيمولوجيا.

فالعلم من هذا المنظور:
- هو قطع مع المعرفة العامية وتجاوز للحس المشترك...
- وهو بناء معرفي منظم يعتمد أساليب منهجية واعية في هذا البناء...
- وهو مجهود متصل ومتراكم لتفسير وفهم موضوعات وقضايا البحث من أجل استخلاص مبادئها وقوانينها أو حقائقها، ومن أجل تسخيرها وتوظيفها...
- وهو تعبير عن كل ذلك بمفاهيم ذات دلالات مميزة ودقيقة، ضمن صياغات نظرية منطقية ومنسجمة، قابلة للمراجعة وللفحص الداخلي والخارجي..الخ.




2- النظرية العلمية:




- تعتبر النظرية العلمية الإنجاز المعرفي الأهم والأعلى في العلم...

- فهي تركيب معرفي عقلاني ومنظم لعدد من الحقائق الثابتة أو المؤقتة..

- تعمل على النظر في إشكالية معرفية بعينها والإجابة عن أسئلتها، بما تراكم للباحث/العالم من حقائق حول موضوع محدد، وتساهم في تنسيق معارف مرحلة تاريخية ما...

- إضافة إلى وظيفتها المركزية في تطوير المعرفة العلمية، بما تضعه من قواعد للتصحيح والإغناء الذاتي...










3- المنهج العلمي :





لا تستقيم المعرفة العلمية إلا بنظام واعي وتكامل لبناء هذه المعرفة يصطلح عليه ب: ’’المنهج“.


يستند هذا النظام إلى سلسلة من العمليات والإجراءات المعرفية الهادفة إلى استقصاء موضوع البحث واستكشاف حقائقه.


يقتضي المنهج في العلم وصف مجمل خطواته وعملياته حتى يتسنى للباحث ذاته أو لغيره من الباحثين،إتباع نفس العمليات أو مراقبتها وتقييمها، بما يتيح فرص تطوير المنهج وإغنائه.


وبقدر ما يرتبط المنهج بمنطلقات معرفية و نظرية، فهو كذلك يصطبغ بخصوصيات الموضوع العلمي المدروس.


وتعتبر الإجراءات التقنية للبحث نوعا من الامتداد المعرفي للمنهج، وليست إجراءات سابقة عليه أو مستقلة عنه...

جاذبية مناهج العلوم الطبيعية بالنسبة للعلوم الاجتماعية:





منذ اللحظات التأسيسية لعلم الاجتماع، ظل النموذج الطبيعي للمعرفة العلمية مؤثرا وموجها لبناء هذا الحقل المعرفي الناشئ،(الفيزياء الاجتماعية)...


وقد كان الاتجاه الوضعي واضحا في الإعلان عن هذه الجاذبية ، وفي محاولة تأسيس منهج خاص بالعلوم الاجتماعية يستلهم النموذج المعرفي العام للعلوم الطبيعية...


في الترسيمة الوضعية لتطور مناهج العلوم وانتقالها من الأكثر بساطة وعمومية إلى الأكثر تعقيدا وتخصصا : من الملاحظة والاستقراء ، إلى الاستنباط والمنطق ، إلى المنهج التجريبي ، فالمنهج المقارن والتاريخي ، اعتبر المؤسسون الوضعيون لعلم الاجتماع أن المنهج في هذا العلم الناشئ هو أكثرها تعقيدا وشمولية من غيره...

يلخص (Guillaume De Greef(1893 هذا المنظور كما يلي:




<< في علم الاجتماع، وفيما يتصل بالمنهج التجريبي، فإنه لا ينبغي أن نغفل أبدا، أنه إذا كانت الإجراءات التجريبية الفردية غير فعالة في الغالب، فإنه لا بد من الإقرار بوجود وباحتمال تطور إجراءات تجريبية جماعية في علاقة بالتجارب الجماعية التي ينبغي تأسيسها أكثر فأكثر في هذا المجال(بالإدارة والمعامل..).

إن مكتب العالم من هذا المنظور صار غير كافي منذ زمن بعيد، وما يلزم هو مختبرات جماعية، وطنية ودولية، مخصصة أساسا لوضع إحصائيات ذكية، وليس غير متماسكة كما هو عليه حال الأعمال الرسمية الحالية في الغالب..>>

G.De greef; les lois sociologiques;p.29 (ترجمة شخصية)

* * * * *

ليتطور الاجتهاد المنهجي بعد ذلك في علم الاجتماع مع إميل دوركايم وماكس فيبر واللاحقين




موقع المناهج والتقنيات ضمن مكونات المعرفة العلمية :






ب= موقع مناهج وتقنيات البحث ضمن

المسار العام لبناء وتطور المعرفة السوسيولوجية والأنثروبولوجية.









خلاصــــات :





1- كان مسار بناء المعرفة السوسيولوجية مجالا لتفاعل معرفي متنوع المصادر: علوم طبيعية، إنسانية واجتماعية...


2- قبل أن يصير التمييز بين الكمي والكيفي داخليا، يهم مناهج وتقنيات البحث السوسيولوجي والأنتربولوجي، فقد كان تمييزا خارجيا بين علوم طبيعية/دقيقة ، علامتها المميزة هي الأساليب الكمية، وبين علوم إنسانية/ غير دقيقة، علامتها المنهجية المميزة هي الأساليب الكيفية( قراءة معاني الظواهر الاجتماعية التي هي ذاتها متغيرة ومتشابكة..الخ).




3- ساهم تطور المعارف المنهجية والتقنية لعلم الاجتماع والأنتربولوجيا في تفاعل وتكامل الدراسات والأبحاث ذات القواعد المنهجية الكمية والكيفية، وفي تطوير أدوات بحث وإجراءات ميدانية كثيرة...




4- وقد تكرس كل ذلك عبر تطور البحث السوسيولوجي والأنتربولوجي الميداني ، وعدد من تطبيقاتهما العملية( السوسيولوجيا التطبيقية / الأنتربولوجيا التطبيقية):الانتقال من الماكروسويولوجيا إلى الميكروسوسيولوجيا




المحور الأول







الإجراءات المنهجية والتقنية لإجراء

الأبحاث والاستطلاعات السوسيولوجية

الميدانية







تذكيـــر:
موقع المناهج والتقنيات ضمن المكونات العامة للمعرفة العلمية




روابط معرفية:





K.Poper : أهمية إنشاء نماذج نظرية متوسطة الطموح المعرفي،عوض الانطلاق من وهم بناء نظريات علمية كبرى.


R.Merton : النظرية السوسيولوجية كتصورات منطقية منظمة البناء.. ينبغي أن يكون مداها محدود بشكل إرادي.


R.Boudon : أهمية دراسة السيرورات الجزئية في بناء النظريات العلمية.


A.Touraine: الانتزاع المنهجي للوقائع السوسيولوجية من الوقائع الاجتماعية.







1- مساهمة الرواد في تحديد وبناء الموضوع السوسيولوجي




* أ.كونط: النظر في الجوانب الشاذة والمرضية للمجتمع: الفوضى، الاضطراب، اللانظام اجتماعي...

(لكن، ألا يعرف المجتمع مظاهر بناءة وداعمة لتماسكه تستحق الدراسة؟)

* إ.دوركايم: - التأسيس المنهجي لعلم الاجتماع، أو وضع قواعد للمنهج خاصة بهذا العلم: اجتناب المقولات المشتركة والآراء المألوفة والأحكام الاجتماعية الرائجة،- النظر إلى الواقعة الاجتماعية كما لو كانت شيئا..

- تعريفه للظاهرة الاجتماعية باعتبارها ذات امتداد وحجم واستمرارية في الزمان...

( إلا أن هناك حالات خاصة ومع ذلك فهي دالة اجتماعيا، كما أن هناك سيرورات وبنيات غير ظاهرة ومع ذلك فهي أساسية: ليفي ستروس..

* ماكس فيبر: - علاقة الوقائع الاجتماعية بتمثلاتها..

- منهجية الفهم: فهم الأفعال الاجتماعية..







1: بناء موضوع البحث ضمن مشروع متكامل للدراسة،عمل نظري ومنهجي في الآن ذاته: الموضوع يوجه نوع المقاربة المنهجية.







- تحديد قضية البحث: وهي عادة ما تسعى إلى فحص العلاقة بين متغيرين أو أكثر.

- موقعتها في الزمان والمكان: حتى ترتبط بمجتمع دراسي خاص: ( الميدان) .

- تحديد المواصفات الكبرى للمجتمع المدروس.

- بيان المسألة أو المشكلة المطلوب فحصها أو معالجتها: في تساؤل مركزي محرك وموجه للدراسة.

- بيان الهدف من الدراسة : معرفيا كان أو عمليا ، للاسترشاد به خلال مجمل مراحل البحث.

- ضبط إشكالية البحث: في أسئلة أساسية مشتقة من السؤال المركزي.

- صياغة الفرضيات الموجهة للبحث: حتى تتجه الدراسة نحو جمع المعطيات ذات الصلة بفحص الفرضيات، أكانت فرضيات إثبات أو فرضيات نفي .



- الفحص الأولي لمشروع البحث: في ضوء نماذج من الدراسات السابقة، وفي ضوء استطلاع أولي للمجتمع الدراسي، وفي علاقة بالشروط الذاتية للباحث(موقعه بالنسبة لمجتمع البحث..)..







2:توجيهات لبناء مشروع البحث




تذكير:



- استكشاف موضوع البحث وملامسة ملامحه، لحظة معرفية لبناء الموضوع المطلوب إنجاز دراسة سوسيولوجية بشأنه...

- بناء موضوع البحث، سيرورة معرفية تبتعد عن الإدراك المشترك للاجتماعي، في الوقت الذي تقترب فيه من الصياغة المعرفية الميدانية لقضية البحث.

- حصر الموضوع ضمن نطاق ميكروسوسيولوجي معين قابل للفحص الميداني، إذا كان يقتطع الموضوع من سياقه الاجتماعي العام ( احتراما لمنهجية المعرفة العلمية)، فهو يسمح بمراكمة معارف محددة للإطلالة على جوانب أخرى من الحياة الاجتماعية.




3-1: المفاتيح الأساسية الموجهة لعملية البناء




1: التخلص من وهم دراسة قضية اجتماعية ما دراسة شاملة، جامعة، مانعة... = إما بسبب الاستحالة الميدانية لمثل هذه الدراسات.

= وإما بسبب ما تتطلبه من جهد معرفي ونظري كبير، = إضافة إلى كلفتها الزمنية والمالية العالية.




2: الاقتناع بكون صياغة عنوان/قضية البحث إنما هي عملية لاحقة على الإجراءات المعرفية،المنهجية والتقنية الإعدادية لعملية البناء.




3: اعتبار الصياغة التي لا تسمح بإدراك متماثل أو متقارب لنفس الموضوع ( اعتمادا على تقنية التحكيم)، إنما تكشف عن خلل في البناء والصياغة: على مستوى المصطلح والمفهوم وترتيب العلاقة بين متغيرات قضية البحث...




3-2:تعريف المكونات الأساسية لمشروع البحث:




-1: القضية: تعمل على التعبير عن وجه من أوجه الحياة الاجتماعية عبر النظر في العلاقة القائمة أو المحتملة بين متغيراتها (بعض عناصر أو مكونات الحياة الاجتماعية المقصودة بالدراسة).

مثال: “ الطالب غير الممنوح و تدبيره لنفقاته الدراسية“

” معنى الحياة عند المسنين“ ..الخ.

-2:تحديد الموضوع: بالشكل الذي يحيل على مجتمع دراسي قابل لفحص قضية البحث ميدانيا انطلاقا منه، وبالشكل الذي يتيح اختيار نوع المقاربة المنهجية، كمية أو كيفية...

مثال: ” الطالب غير الممنوح وتدبيره لنفقاته الجامعية“

دراسة استطلاعية للطلبة غير الممنوحين بجامعة ابن طفيل.

مثال للتطبيق: ”معنى الحياة عند المسنين“ ، دراسة حالات لنزلاء دار العجزة بالقنيطرة.




-3: الهدف من البحث:

* يبرز المساعي المحركة للبحث، أو الغايات المعرفية والعملية المتوخاة من إنجازه.

* كما يساهم في توجيه صياغة الموضوع بما يترجم تلك المساعي، وبما يحقق الغايات المرجوة من وراء إنجازه( بناء تفاعلي لكافة مكونات المشروع).

مثال: ”استطلاع الكيفية التي يتدبر بها الطلبة غير الممنوحين مصاريف حياتهم الجامعية، بغاية الوقوف على الصعوبات المحتملة التي تواجه هذا المسار، أو تعرقله“...

- تطبيق على مثال العجزة ...




-4:السؤال الموجه للبحث:




* يترجم بشكل مباشر موضوع الدراسة، ويعمل على توجيه مختلف مفاصلها. إنه سؤال محوري أو مركزي، وهو بمثابة الوجه الآخر لموضوع البحث.

* كل عدم تطابق بين الموضوع وسؤاله المحوري، يعبر عن خلل في تحديد الموضوع، أو عن التباس في الهدف المتوخى من البحث.




مثال: - ” بأي كيفية يدبر الطالب الجامعي غير الممنوح نفقاته الدراسية ؟ “.

- ”أي معنى ينظر من خلاله المسنون نزلاء دار العجزة إلى الحياة؟“




-5:الإشكالية:

* وهي بناء تساؤلي لموضوع البحث، بناء يعمل على اشتقاق أهم التساؤلات ذات الصلة بالموضوع، والموضحة لسؤاله المحوري.

* إنها بناء تساؤلي يسعى إلى النظر في علاقة متغيرات موضوع البحث، ببعض المتغيرات الأخرى ذات الصلة الوثيقة بقضيته.

مثال: - هل يتحقق ذلك باعتماد الطالب كلية على المساعدات الأسرية؟

- أم يتدبر الأمر عبر المزاوجة بين الدراسة والعمل؟

- أم يعتمد على دعم بعض الجمعيات المهتمة بالخدمات الاجتماعية الموجهة للطلبة؟

تطبيق على مثال العجزة... =




-6: الفرضيات:

* باعتبارها دالة على الروح العلمية، بما هي صياغات احتمالية للعلاقات الممكنة بين متغيرات الدراسة كما تم تقديمها ضمن تساؤلات البحث أو إشكاليته..

* ويمكن أن تتخذ الفرضيات صيغة موجبة، متجهة وجهة تأكيد العلاقة بين متغيرات الإشكالية، أو صيغة سالبة متجهة وجهة نفي العلاقة بينها.

مثال: - من الوارد أن تكون الأسر هي من يتحمل مجمل هذه النفقات.

- قد تعتمد قلة منهم على المزاوجة بين الدراسة والعمل.

- من الناذر أن تكون جمعيات الخدمات الاجتماعية هي من تتحمل هذه النفقات.

= تطبيق على مثال العجزة...




خلاصــــات




- يقع التكوين النظري في منطلق وأساس أي إعداد معرفي ومنهجي لموضوع البحث.

- إن عملية اختيار تقنيات البحث والدراسة الميدانية تكون لاحقة على عملية البناء المعرفي للموضوع، أو متفاعلة معها.

- يعتبر استطلاع الميدان والتعرف على بعض الخصائص الاجتماعية للمجتمع المدروس مساعدا ليس فقط على اختيار التقنية أو التقنيات الملائمة لدراسته، وإنما كذلك لضبط مكونات مشروع الدراسة أو البحث.






المنــاهج الكمــية




(المحور الأول)




الدرس 2:




من المفاهيم إلى المتغيرات والمؤشرات












1= تعريف المتغيرات





تتألف الظاهرة الاجتماعية من عدد من المكونات والعناصر..





توجد هذه المكونات في حالة دائمة من التفاعل وتبادل التأثير، ولو كان الطابع الظاهر لبعض الظواهر أو الأوضاع والأحوال الاجتماعية هو الاستقرار والثبات...





الحاجة المنهجية للباحث إلى فحص تفاعلات بعينها من الظاهرة موضوع البحث، تقتضي منه فحص نوع العلاقة الجارية بين مكوناتها وعناصرها، أو ”عواملها“هي ما يصطلح عليه ب:“ المتغيـرات“.. هكذا نتحدث في العلم عن المتغيرات كإجراء منهجي في كل دراسة تحترم الشروط المنهجية القاعدية للبحث




- تتحدد المتغيرات عادة عبر تحويل سؤال البحث، أو أسئلة الإشكالية،إلى صيغة ترمي إلى تحديد أثر عامل من العوامل المكونة لموضوع البحث في العوامل الأخرى، أو نوعية تفاعله مع واحد أو أكثر من هذه العوامل (المتغيرات)...

مثال: - هل يؤثر التقدم في السن لدى نزلاء دار العجزة على تكوينهم لمواقف سلبية من الحياة؟

- وهل هناك اختلاف بين الرجال والنساء بهذا الخصوص؟...

مثال للتطبيق: العوامل المؤثرة في اختيار الطلبة لمسلك انتمائهم الجامعي.




وهكذا يسمح هذا الإجراء المنهجي بتحديد وجهة التحليل، وبالتالي نوع المتغيرات المطلوب رصد تفاعلاتها.




2= أنواع المتغيرات:




2-1: المتغيرات الأساسية: تعكس بشكل مباشر مكونات قضية البحث..وتعبر عن عناصر السؤال/ الأسئلة الموجهة للبحث...وبذلك يتم تمييزها عن المتغيرات الثانوية باعتبارها لا تتناول مباشرة عناصر قضية البحث ، وإن بدت ذات صلة بها..

مثال للتطبيق: عوامل اختيارات الطلبة/ مسلك الانتماء الجامعي.

2-2: المتغيرات المركزية :وهي ذاتها الأساسية، فقط يتم تسميتها كذلك لتمييزها عن المتغيرات الفرعية المشتقة منها.

مثال للتطبيق: = عوامل الاختيار: - الأسرة – الأساتذة- الأصدقاء..

= مسلك الانتماء: .........




2-3: المتغيرات المستقلة: وتعتبر مستقلة، إما لأنها موضوعيا كذلك، باعتبارها محددات مستقلة للظاهرة موضوع الدراسة، مثل السن، الجنس، مكان الولادة..

أو لأن الباحث يتخذها كعوامل مساعدة على فهم وتفسير الظاهرة..

= تطبيقات على المثال السابق: .........






2-4: المتغيرات التابعة: ويرصد من خلالها الباحث أثر المتغيرات المستقلة..




= تطبيقات على المثال السابق: .........

* * *

هذا ويمكن الحديث عن أنواع أخرى من المتغيرات، مثل الوسيطة والمرافقة... كلما تم تعميق الفحص والتحليل إلا وبرزت الحاجة إليها.







3= من المتغيرات إلى المؤشرات:





يرى لزرسفيلدP.Lazarsfeld أن هناك 4 مراحل للانتقال من المفهوم إلى المؤشر:

1- البناء النظري للمفهوم ومحاولة ضبطه تبعا لخصوصية موضوع البحث؛

2- تفكيك المفهوم إلى مكوناته بما يسمح بالوقوف على أهم المتغيرات..؛

3- اختيار العلامات Les Indicateursالدالة على كل مكون/ متغير..؛

4- ترتيب بعض العلامات وصياغتها في مؤشرات قابلة للرصد والقياس بشكل موضوعي (بعيدا عن الانطباعات..)، إما كميا أو كيفيا..

= مثال للتطبيق: مؤشر سلامة اختيار المسلك:

علامات المؤشر: - فكرة متكاملة عن مجمل المسالك - طبيعة التكوين داخل مسلك الاختيار – طرق التقييم والمراقبة – مخارج التكوين......




المؤشرات إذن هي بمثابة معايير لرصد وقياس المتغيرات




= يمكن لهذا الرصد أو القياس أن يتحقق انطلاقا من علامات كمية..

= كما يمكن أن يتحقق انطلاقا من علامات كيفية...

تبعا لطبيعة الموضوع المدروس،وتبعا للمتغيرات المرصودة، وتبعا لنوع المقاربة المنهجية( استطلاع موسع أو معمق)، وتبعا لأهداف الدراسة...

- تطبيق على المثال السابق: اختيارات الطلبة لمسالك انتمائهم...






خلاصـــــــــــات:





تعتبر كذلك مدخلا منهجيا لا غنى عنه لمهام الدراسة والبحث وخاصة في مراحله الميدانية (بناء أداة الاستطلاع)...





تمهد السبيل لعمليات تقديم وعرض المعطيات، وأساسا بناء الجداول والمبينات، واستعمال الأساليب الإحصائية في قراءة المعطيات...








تؤدي المتغيرات بالنسبة لكل بحث وظيفة معرفية هامة تتمثل في إتاحتها فرصة المقارنة الموضوعية بين العناصر والمكونات موضوع الرصد والبحث...










العينـــــات


أنواعها وطرق بنائها




تقديــم: الحاجة المنهجية إلى العينات

= استحالة التغطية الإحصائية لمجمل وحدات بعض قضايا البحث الاجتماعي، أو لا جدوى مثل هذه التغطية (حيث يمكن تغطية مجمل وحدات موضوع ما ، وحيث لا يمكن ذلك بالنسبة لمواضيع أو قضايا بحث أخرى)

= أهمية استخدام العينات بالنسبة لبعض الدراسات الاستطلاعية السابقة على الأبحاث الاستقصائية: بغاية تدقيق المتغيرات ، أو بغاية ضبط أداة الاستطلاع..

= الضرورات التنظيمية والإجرائية للبحث تقتضي أحيانا كثيرة استخدام العينات: - مدة زمنية غير كافية للاستطلاع الميداني

- موارد مالية محدودة

- موارد بشرية محدودة كذلك...




1= من مجتمع البحث إلى العينة




إن الحاجة المنهجية لإجراء البحث انطلاقا من العينة




= تقتضي بداية تحديد مواصفات مجتمع البحث وتدقيقها

تبعا ل : - طبيعة البحث وحدوده( استطلاع أولي، استطلاع موسع، دراسة تتبعية..الخ)

- لمنهجية البحث ونوعية المقاربة المقترحة لدراسته ( كمية، كيفية، تجريبية..)



= الإعلان عن هذه المواصفات وجردها بما يلزم من الوضوح والتمييز بين كل خاصية أو صفة من خصائص مجتمع الدراسة وصفاته..



مثال للتطبيق: نزلاء دار العجزة: ..........................



وبذلك فإن العينة تعريفا هي وحدات الاستطلاع الميداني التي تعكس خصائص مجتمع البحث بما يلزم من تمثيلية كمية وكيفية.








2-1= العينات الاحتمالية أو العشوائية




إن الاحتمال هنا أو العشوائية لا يعني الاختيار كيفما اتفق لوحدات الاستطلاع الميداني ، بقدر ما يعني اختيارا وفق شروط أهمها: - مجتمع بحث (المجتمع الأم) معروف في خصائصه أو سماته،

- معلنة متغيراته،

- تتوفر قاعدة إحصائية عنه.




وبناء على ذلك يتم اختيار وحدات الاستطلاع تبعا لبعض الإجراءات الإحصائية والتقنية المميزة لكل طريقة في اختيار العينة ، هي ما يجعلها تحمل تسميات مختلفة :




2-1-1: العينة العشوائية البسيطة : حيث تسمح طريقة بناء هذا الصنف من العينات بإتاحة الفرصة لأي وحدة من وحدات مجتمع البحث باحتمال تمثيلها ضمن العينة الممثلة لذلك المجتمع أثناء الاستطلاع الميداني.

2-1-2: العينة العشوائية المنتظمة : حيث يتم اختيار وحدات العينة بطريقة منتظمة تبعا لمقياس ترتيبي يختاره الباحث، دون أن يكون لذلك تأثير على إمكانية أو احتمال تمثيل أي فرد أو وحدة من مجتمع البحث ضمن عينة الدراسة



مثال: اختيار الطالب المرتب 3 من بين كل مجموعة 10 طلبة من اللائحة الإجمالية للطلبة المبحوثين..

2-1-3: العينة الطبقية : حيث يتم تشكيل مجموعة من العينات الفرعية تبعا لمتغيرات وخصائص مجتمع البحث، ويتم انتقاء من بين هذه المجموعات الفرعية وحدات الدراسة الميدانية بطريقة عشوائية تبعا لتلك الخصائص.

2-1- 4: العينة العنقودية: حيث يتم تقسيم مجتمع البحث إلى عدد من المجموعات الفرعية، وبعد ذلك تقسيم كل مجموعة فرعية إلى مجموعات جزئية، إلى حين الوصول إلى الدرجة التي تسمح باختيار المجموعات الجزئية الممثلة للمجتمع الكلي للبحث، حيث يتم استطلاع مجموع وحدات المجموعات الجزئية المختارة.




2-2: العينات المنظمة أو غير العشوائية




وهي بدورها أصناف تقتضيها طبيعة المقاربة المنهجية، وأهداف الدراسة،ومرحلة إنجازها

( كالاستطلاعات الأولية)..

ويتم الاصطلاح عليها بمصطلحات عديدة، من بينها العينات السهلة المنال، وعينات تحقيقات الشارع، وعينات كرة الثلج، والحصصية، والهادفة.. دون أن يعني ذلك أن بعض إجراءات بنائها مختلفة كليا عن النمط العشوائي من العينات.

وأهم أنواع هذا الصنف:




2-2-1: العينة الحصصية أو بالكوطا أو النصابية : وهي نوع من النموذج المصغر لمجتمع البحث، حيث يتم اختيار وحدات العينة تبعا لحجم ودرجة أو نسبة حضور كل خاصية من بين الخصائص العامة للمجتمع الأم.

مثال: اختيار عينة من بين الطلبة تبعا لنسبة حضور الخصائص التالبة: المسالك، الجنس، سنوات التكوين الجامعي...

2-2-2:العينة العمدية أو الهادفة : حيث يتم تحديد واختيار أفراد معينين من مجتمع البحث لأغراض خاصة ذات أهمية بالنسبة للباحث، وبالنسبة للهدف من الاستطلاع..لذلك لا يمثل هذا النوع من العينات تمثيلية كافية لمجتمع البحث كما هو حال العينات العشوائية، رغم فوائدها المنهجية والميدانية الخاصة.

2-2-3:عينة كرة الثلج : حيث يعمد الباحث إلى انتقاء مبحوثين أوليين تبعا للمواصفات المطلوبة في دراسته، وبعد ذلك يطلب من المبحوث إرشاده إلى الشخص أو الوحدة الموالية التي تحمل نفس الخصائص المطلوبة ، وهكذا إلى أن يتم استيفاء التحقيق الميداني؛ وكأن العينة في هذه الحالة تبنى تدريجيا.



مثال: الطلبة المنتمون سياسيا..




خلاصـــــــــــــــــات:




= لعل الهدف المنهجي الأساسي لاستخدام العينات هو إمكانية تعميم نتائج البحث على مجمل المجتمع الدراسي موضوع البحث،وهذا ما يعرف بالصلاحية؛

= لا تتحقق صلاحية العينة من غير تحقيق شرط سابق ألا وهو هو ما يعرف بالتمثيلية الكافية؛

= إلا أن ذلك لا يتحقق من غير صعوبات:

بعض هذه الصعوبات ذات طابع تقني أو إحصائي وعملي(تنفيذي) خاص بكل نوع، وبعضها الآخر مشترك بين أغلب أنواعها...لذلك يتم اللجوء إلى تقليص هامش الخطأ أو إلى تقويم العينة,..









الاستمارة:




المحور الثاني:









تقديم:



= صارت الاستمارة قرينا مباشرا للبحث السوسيولوجي الميداني، إلى درجة تغطيتها على ما عداها من الأنواع الأخرى لتقنيات البحث.

= أدى الاستخدام الموسع للاستمارة إلى نوع من الاستسهال في استخدامها من قبل غير المختصين بالبحث السوسيولوجي وطرائقه، دون مراعاتهم للاحتياطات المنهجية والتقنية التي يتطلبها اللجوء إلى هذه الوسيلة التقنية أو غيرها.

= كغيرها، فقد تطورت هذه التقنية بدورها في سياق تبلور المعرفة السوسيولوجية والأنثروبولوجية ، انتقالا من الصيغ الأولية البسيطة لاستخدامها، وصولا إلى الصيغ الأكثر تنظيما وترتيبا تقنيا لها: Ethnos,SPSS …










1=الشروط العامة والخاصة بتطبيق الاستمارة:




= إن ما يبرر استقلال أي تقنية عن الأخرى هو بالطبع استخدامها فيما هو غير ممكن وغير قابل للتحقق بواسطة غيرها، وإن كانت درجة استقلال كل تقنية عن الأخرى في بعض الأحيان بسيطة.

= إن أهم ما يميز الاستمارة بالمقارنة مع تقنية الملاحظة أو المقابلة، هو صلاحيتها لجمع أصناف من المعطيات لا تجتمع في غيرها: معطيات عن الأفعال والممارسات، وكذا عن الآراء والمواقف، إضافة إلى التطلعات والانتظارات..

= على خلاف الملاحظة أو المقابلة، فإنه عادة ما لا يتم اللجوء إلى الاستمارة خلال المراحل الاستكشافية لميدان البحث، بل عادة ما يتم اعتمادها خلال مراحل إنجاز التحقيق الميداني وتنفيذ عملية جمع المعطيات.

= كذلك، يتجه استخدام الاستمارة عادة نحو التغطية الموسعة ( استقصاء موسع) لمجتمع البحث ، عبر الاتصال بعدد كافي من المبحوثين المفترض فيهم تمثيل قضية البحث ( العينة ). ولذلك غالبا ما يستعين الباحث ،لإنجاز عملية البحث بهذه الطريقة، بعدد من المحققين المساعدين.

= إذا كانت الاستمارة تصنف عادة ضمن التقنيات الكمية لجمع المعطيات، وتخضع معطياتها للمعالجة الكمية الإحصائية بالأساس، فإن ذلك لا يلغي انكبابها على جمع معطيات كيفية خاضعة لطرق التحليل الكيفي، فضلا عن قابليتها لطرق التحليل الكمي.

= نظرا للطابع الموسع لإنجاز التحقيق بواسطة الاستمارة ، فإن مشكلات العينة ( أنواعها وطرق اختيارها..)عادة ما تكون مرافقة لاستخدام هذه الطريقة التقنية في البحث السوسيولوجي.




2= أنواع الاستمارة:




= إن الطابع العام لبناء الاستمارة يضفي عليها شكلا أكثر تنظيما بالمقارنة مع غيرها من تقنيات البحث، وهو شكل يعكس خصوصيتها أكثر ما يعكس تفوقها على غيرها، خاصة وأن بعض أنواع الاستمارة وصيغ تنفيذها لا تختلف كثيرا عن أنواع محددة من المقابلة أو من الملاحظة.

= على الرغم من الطابع المذكور المميز للاستمارة، فإنه يتم التمييز داخلها بين الأنواع الأساسية التالية، وذلك تبعا لصيغ تنفيذها، أو تبعا لمجالات استخدامها، أو تبعا لسمات المجتمع الدراسي المعني بالتحقيق الميداني اعتمادا على هذه الأداة :

2ـ1: الاستمارة العادية: le questionnaire ordinaire




= يتم استخدام هذا النوع مع مجتمع دراسي متعلم وقادر على التعامل التقني مع الاستمارة، إذ يكتفي الباحث بإعداد الاستمارة، ليوزعها بعد ذلك على المبحوثين قصد تعبئتها من قبلهم؛ وقد تستعمل لهذه الغاية طرق التوزيع المباشر أو عبر الوسائط العديدة للتوزيع تقليدية كانت أم حديثة( بريد إلكتروني مثلا..).




= عادة ما لا تحقق هذه الطريقة نسبة الاستجابة المرجوة، وكذا درجة الصدق المنتظرة، ما يدعو الباحث إلى اتباع عدد من الإجراءات الموازية، من قبيل : توزيع عدد من الاستمارات مضاعف لأفراد العينة، أو إعادة توزيع استمارات إضافية بعد الحصول على نسبة غير كافية من الردود، أو تجنيد عدد كافي من المحققين لملء الاستمارة، وهو ما يمثل النوع الثاني منها:




2ـ2:الاستمارة الموجهة : le q. administré




= حيث يعمل الباحث أو المحقق المساعد على تقديم أسئلة الاستمارة للمبحوثين وتدوين إجاباتهم عنها بنفسه، كما لو تعلق الأمر بمقابلة، ولهذا يطلق على هذه الصيغة كذلك اصطلاح: ”استمارة ـ مقابلة“.




= يتم اللجوء إلى هذه الصيغة ، إما لكون أفراد المجتمع الدراسي غير متعلمين أو غير مؤهلين لتعبئة الاستمارة بأنفسهم، أو حرصا من الباحث على تغطية العدد الكافي من المبحوثين، خاصة إذا كان متوقعا عدم تفاعلهم القوي مع موضوع البحث...

و معلوم أن هذه الطريقة تعرف بعض الصعوبات وبعض النواقص كذلك...




2ـ3: أما الاستمارة الصامتة:




= فهي تمثل الوجه الآخر لتقنية الملاحظة بالمعاينة، حيث يتم إعداد وثيقة الاستمارة وتدوين المعطيات المعنية بها عبر تسجيل ما يلاحظ أو ما لا يلاحظ الباحث أو المحقق المساعد من عناصر تهم موضوع البحث.




= وعادة ما يتم اللجوء إلى هذه الصيغة حينما يتخذ البحث كموضوع له بعض العناصر أو المقومات المادية المحيطة ذات صلة بالحياة الاجتماعية للمبحوثين، أو حينما يهم موضوع البحث رصد بعض الممارسات والأنشطة الاجتماعية للمبحوثين دونما حاجة إلى استجوابهم أو مقابلتهم.

وتبرز هذه الأنواع الثلاثة بعض مظاهر الشبه بين الاستمارة وأنواع أخرى من تقنيات البحث، كما توضح ذلك الخطاطة التالية:




خطاطة الاستمارة :









3= الشروط والمواصفات العامة لبناء الاستمارة:




كغيرها من التقنيات، يتم بناء الاستمارة تبعا لعدد من الشروط، وعبر احترام عدد من مواصفات البناء، من بينها:

= القيام باستطلاع ميداني أولي لموضوع البحث، قصد التعرف على خصوصيات مجتمع البحث، وقصد الاقتراب من مكونات الموضوع المدروس.

= وضع الاستمارة في صيغتها التجريبية، قصد اختبار مدى صلاحيتها وملاءمتها لإنجاز البحث بخصوص الموضوع المزمع دراسته وعن المجتمع المقترح لذلك.

= تصحيح الاستمارة التجريبية واقتراح الصيغة المعدلة، بناء على نتائج المرحلة التجريبية، حيث يتم تحديد محاور الاستمارة وعدد أسئلتها وترتيبها ونوعيتها (مفتوحة، مغلقة..).

أما المواصفات الأساسية للاستمارة فإنها تقتضي من الباحث:

= التمهيد للاستمارة ببيان موضوعها والهدف من ورائها والطرف المسؤول عن إجراء البحث..

= ترتيب محاورها تبعا لإشكالية البحث ونوع المعطيات المطلوبة منه..

= ضبط عدد الأسئلة وترتيبها وصيغتها اللغوية، بما لا يدع مجالا للتصرف فيها من طرف المحقق، أو تأويلها من طرف المبحوث..

= ضبط أنواع الإجابات المقترحة على المبحوثين: أسئلة مفتوحة أو مغلقة أو مذيلة باختيارات..

= هذا مع العلم أن الباحث عادة ما يخصص إطارا تقنيا لترقيم الاستمارات، وكذا لتدوين الملاحظات الموازية، خاصة إذا كانت صيغة تنفيذها هي استمارةـ مقابلة أو لتسجيل ملاحظات ومقترحات المبحوث إذا كانت بصيغة الاستمارة العادية.




* * * * *
















الاتجـاهات




تستعمل كلمة الاتجاه لأكثر من معنى في مجالات العلم والحياة اليومية، ومثال ذلك استعمال الكلمة في الدلالة على وجهة الرياح أو الطائرة، ووجهة الارتفاع أو الانخفاض في الدراسة العلمية لسعر عملة ما، والمنحى الذي تأخذه الدولة في مواجهة أمر عام يتصل بسياستها الداخلية أو الخارجية.

أما في علم النفس فيعبر الاتجاه attitude عن حالة نفسية، وله مكوناته ووظائفه وخصائصه، ويعد من أهم جوانب الشخصية. وتقع دراسة الاتجاهات، موضوع هذا البحث، في مقدمة موضوعات علم النفس الاجتماعي. ثم إن كثرة الاتجاهات لدى الفرد، والترابط القائم بينهما، يعدان معاً المسوغ الرئيس في إيثار الكثير من البحوث النفسية المعنية بالاتجاه اعتماد لغة الجمع، أي الاتجاهات، في الدراسة. وفي اللغة العربية يصادف القارئ أحياناً مصطلح «الموقف» وقد استعمل في التعبير عن الاتجاه في دراسة ما نفسية أو تربوية.

ويصعب تعريف الاتجاه بدقة في علم النفس شأنه في ذلك شأن الشخصية. ومع ذلك فإن البحوث التي تتناوله بالدراسة تورد تعريفات عدة. وبين التعريفات التي يتكرر ذكرها قول ألبورت Allport إن الاتجاه حالة استعداد عقلي أو عصبي نُظِّمت عن طريق الخبرات الشخصية تعمل على توجيه استجابات الفرد لكل تلك الأشياء والمواقف التي تتعلق بهذا الاستعداد. وبين التعريفات التي يتكرر ذكرها كذلك قول غيلفورد Guilford «إن الاتجاه تهيؤ أو استعداد لأن نفضل أو لا نفضل نوعاً من الأمور أو الأعمال الاجتماعية، وإنه، من الناحية النفسية، ينطوي على اعتقادات كما ينطوي على مشاعر، وإن هذه الخاصة الأخيرة هي التي تميزه من الميل».

على أن من الممكن الانطلاق من تحليل عدد من الاتجاهات لدى عدد من الأفراد والوصول من ذلك إلى تعريف يغلب عليه أنه وصفي ويذكر أن الاتجاه تهيؤ أو نزوع متعلَّم، وثابت نسبياً، لدى الشخص لاستجابة تفضيل أو عدم تفضيل موضوعها الأفراد أو الجماعات أو المؤسسات أو الأفكار وذلك في مجال يستثير تلك الاستجابة، مع العلم أن موضوع الاتجاه يغلب عليه أنه موضوع تهتم به الجماعة.

وتشير المراجع المتصلة بدراسات الاتجاه إلى أن ظهور مصطلح الاتجاه في علم النفس بدأ مع الأعمال العلمية الأولى في علم النفس التجريبي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر،ولكن الكلام عنه كان آنئذ مرتبطاً بالحديث عن اتجاه العقل حين يناقش أموراً تهمه. إلا أن البحوث الخاصة بالاتجاهات غدت أكثر اتساعاً وانتشاراً مع الربع الثاني من القرن العشرين ولاسيما ما يتصل من هذه البحوث بقياس الاتجاهات وبآثارها في سلوك الشخص وآرائه.

خصائص الاتجاهات

جعلت خصائص الاتجاهات موضوعاً لكثير من الدراسات، ولكن نتائج هذه الدراسات لم تكن متفقة في كل ما تذكره. واعتماداً على ما تبرزه هذه الدراسات يمكن ذكر الخصائص التالية:

الاتجاه حادث نفسي لا يخضع للملاحظة مباشرة، شأنه في ذلك شأن الذكاء والشخصية، ولكنه يمكن أن يدرس عن طريق ما يؤدي إليه أي عن طريق السلوك الذي يظهره والذي يمكن أن يكون موضوع ملاحظة مباشرة. ومن هذه الزاوية كثيراً ما يقال إن الاتجاه افتراضي ويجري التحقق من وجوده ووجهته عن طريق دراسة أنماط السلوك المنبئة عنه.

والاتجاه تهيؤ، إنه يبدو على شكل استعداد أو نزوع للقيام بفعل ينطوي على علاقة بين الشخص وموضوع الاتجاه، ومن هذه الزاوية يكون اختلافه عن السمات التي يذكر وجودها في الشخصية والتي تكون لاصقة بها وتميزها من حيث هي كل.

الاتجاه محوري، أي إنه مستقطب، وله محوران: مع أو ضد، تفضيل أو لا تفضيل، تحبيذ أو رفض. ومن هذه الزاوية يقال عن الاتجاه إنه ينطوي على نوع من التحيز الشخصي، وإن فيه تقويماً أي منح قيمة من الشخص لموضوع الاتجاه. وقد تكون القيمة (أي التفضيل) عالية وقد تكون دون ذلك. ومن هذه الزاوية ينظر إلى الاتجاهات على أنها يمكن أن تختلف من حيث شدتها أكانت «مع» أم كانت «ضد».

الاتجاهات متعلَّمة، أي إنها لا تكون لدى الشخص لعامل وراثي بل هي مكتسبة وتأتي من تفاعل الشخص (بكل ما عنده) مع محيطه (بكل ما فيه) ومن الخبرات الناجمة عن هذا التفاعل، ويدخل في هذه الخبرات المشاعر الانفعالية التي ترافقها وتكون جزءاً منها. ومن هذه الزاوية يكون النظر إلى تكوّن الاتجاهات لدى الشخص مع نموه والنظر إلى التفاوت بين الأفراد في اتجاهاتهم، وإن كان موضوع الاتجاه واحداً.

الاتجاه متخصص، أي إن لكل اتجاه موضوعه الخاص به، ومثال ذلك الاتجاه لدى الأشخاص نحو عمل المرأة في القوات المسلحة أو الاتجاه نحو النظام الرأسمالي أو نحو الحرية. فإذا قيل ولكن اتجاه الشخص الإيجابي مثلاً نحو عمل المرأة في القوات المسلحة يظهر في أنماط السلوك المتصلة بهذا الموضوع والصادرة عن ذلك الشخص، وفيها أقواله وأفعاله، قيل، في شرح ذلك، إن تلك الأنماط من السلوك مترابطة ومتجهة نحو موضوع واحد في الأصل ولذلك يقال إن الاتجاه يعبر عن نظام تأتلف فيه أنماط من السلوك وتقدم مجتمعة دلالة على وجهة التفضيل في الاتجاه.

الاتجاه متغير أو متحول، أي إنه ينطوي على درجات، وقد يهتم قياس الاتجاه بثلاث درجات من الشدة وقد يتناول عدداً من الدرجات يفوق ذلك. وفي كل الحالات تشمل الدرجات في دراسة الاتجاهات درجات في شدة التفضيل الإيجابي ودرجات في عدم التفضيل أي التفضيل السلبي.

الاتجاه عقلي عاطفي، أي إنه ينطوي على تفاعل بين جانب عقلي لدى الأشخاص وجانب عاطفي أو انفعالي، ولكن الغلبة في الاتجاهات للجانب العقلي، ومع ذلك يجب الانتباه إلى تفاوت الأشخاص في قوة الجانب العقلي وقوة الجانب العاطفي.

الاتجاه ثابت نسبياً، ويبدو هذا الثبات في استمرارية الاتجاه لدى الشخص لسنوات من حياته بعد تكوّن الاتجاه، ويظهر هذا الثبات واضحاً في أعمال ذلك الشخص المتصلة بموضوع الاتجاه وفي إدراكه للعالم حوله.

الاتجاه ثلاثي الأبعاد، ففيه بعد الماضي من حيث تكونه (أي تكون الاتجاه) واستمراريته حتى الحاضر والعوامل فيه، وفيه بعد المستقبل، ويبدو ذلك واضحاً في استمراره مستقبلاً وفي إجراءات اعتماد الاتجاهات للتنبؤ بما يمكن أن يفعله صاحبها إذا واجهته ظروف تتصل بموضوع تلك الاتجاهات، وفيه بعد الحاضر ويبدو في ظهور الاتجاه حاضراً، عن طريق أنماط السلوك المعبرة عنه، حين وجود استثارة معينة ترتبط بموضوعه أو حين تدعو حاجة حاضرة إلى ذلك.

مضامين الاتجاه وتكونه

يتناول الحديث عن المضامين أو المكونات العناصر الأساس العاملة في بنية الاتجاهات. أما الحديث عن التكون فيهتم بموضوعين: تكون الاتجاهات مع نمو الشخص ونضجه والعوامل المؤثرة في ذلك، وتعديل الاتجاه بعد أن يكون موجوداً بحيث يتغير في شدته أو نطاق موضوعه ويحل محله اتجاه آخر يخالفه في وجهته.

مضامين الاتجاه: في الاتجاه ثلاث فئات من المضامين: العقلية والعاطفية والإجرائية. تتألف المضامين أو المكونات العقلية من مجموعة الأفكار والقناعات والاعتقادات لدى صاحب الاتجاه المتعلقة بموضوع اتجاهه، وتظهر واضحة فيما يورده صاحب الاتجاه حين يدفع إلى تسويغ اتجاهه. وتتألف المضامين العاطفية أو الانفعالية من مجموعة العواطف والمشاعر التي تظهر لدى صاحب الاتجاه في تعامله مع موضوع الاتجاه: إنها تظهر في حبه ذلك الموضوع من درجة ما أو في نفوره منه- من درجة ما كذلك. أما المضامين أو المكونات الإجرائية فتتمثل في نزوع صاحب الاتجاه إلى القيام بأنماط من السلوك تتصل بموضوع الاتجاه وذلك حين تدعو الحاجة إلى مثل ذلك الإجراء أو يتوافر الموقف أو المجال الذي يقع فيه الشخص وموضوع اتجاهه.

إن هذه الفئات الثلاث من المكونات متفاعلة، وهي قابلة لأن يصل إليها الباحث مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، إلا أن مكانة فئة المكونات العقلية أعظم من مكانة المكونات العاطفية وذلك في بنية الاتجاه.

تكوّن الاتجاهات: تتكون الاتجاهات لدى الفرد مع نموه ونضجه وتكون نتيجة لخبراته الناجمة عن التفاعل بينه وبين المحيطين الاجتماعي والمادي حوله. وفي جملة ما تضمه هذه الخبرات تأثير الآخرين في الشخص حين يكون ناشئاً يعيش داخل الأسرة ويتلقى التربية التي توفرها له ويتفاعل معها، وحين يكون موضوع تفاعل مع الآخرين خارج محيط الأسرى وتفاعل مع البيئة المادية وما فيها من مؤثرات الطبيعة ومن مؤثرات صنعها الإنسان. وكذلك حيث يكون متفاعلاً مع شروط مؤسسات اجتماعية متعددة بينها المدرسة والنادي ومؤسسات العمل والمؤسسات الدينية والسياسية وغيرها، وأن يكون متفاعلاً مع وسائل الإعلام والأتراب والآخرين في محيطه الاجتماعي خارج الأسرة أو داخلها. ولعل مما يساعد في فهم الأثر الذي تتركه في الشخص، الطفل والشاب والكهل، ظروف البيت والمدرسة والمجتمع الخارجي، فحص ما تنطوي عليه توجهات الأسرة باستمرار، وفحص ما تنطوي عليه أهداف التعليم في مراحله المتعددة، والأهداف التي تعمل من أجلها المؤسسات السياسية وغيرها ووسائل الإعلام، وما توحي به شروط العمل والمهنة.

على أن من اللازم الإشارة هنا إلى مكانة قدرات الشخص العقلية ومعارفه وبناء شخصيته في تكون الاتجاهات لديه. إن لهذه القدرات والمعارف الشخصية مكانتها في التفاعل بين الفرد ومحيطه، في مستوى محاكماته وفهمه للأمور حوله، وفي محاولاته الوصول إلى الكشف والإبداع والإسهام، إذ إن تكوّن اتجاه ما يعتمد اعتماداً عميقاً على المعارف التي تنطوي عليها خبراته، وعلى قناعاته واعتقاداته وعلى مستوى تقبله الإيحاء والتلقين والنصائح، وعلى أخذه بأسلوب المناقشة الشخصية المستفيضة أو من دونها في أمر ما يقبله.

تعديل الاتجاهات وتغييرها: إن الاتجاهات التي يكتسبها الفرد في حياته، ولا سيما في مراحل ما قبل الشيخوخة، والتي يقال عنها إنها ثابتة نسبياً، يمكن أن تخضع للتعديل والتغيير. فقد ينال الاتجاه بعض التعديل في مدى مضمونه أو شدته، وقد يتغير الاتجاه ويأخذ منحى جديداً مختلفاً اختلافاً واضحاً عن السابق. وبسبب من هذه الحال يكون القول بالثبات النسبي في الاتجاهات.

وقد يتم التغيير أو التعديل ضمن شروط أو ظروف متنوعة. فقد يحدث التغيير لدى الفرد بتأثير خبرات جديدة وعميقة الأثر تتكون لدى الشخص. وقد يحدث بعد تكوّن معارف جديدة لدى الفرد تتصل به وبشخصيته وبموضوع الاتجاه ولا تكون متوافرة لديه من قبل، وكثيراً ما يحدث هذا التغيير ضمن هذه الظروف في حال اتجاه سياسي أو اقتصادي أو اتجاه من زعيم. وقد يكون العامل الرئيس في حدوث التغيير عمل منظم تقوم به وسائل الإعلام أو مؤسسة خاصة وذلك حين يخضع الشخص لآثار تلك الوسائل أو المؤسسة الخاصة.

ثم إن العامل الرئيس في التغيير قد يأتي من تغير في حاجات الفرد، ومثال ذلك أثر حاجة الفرد الشديدة والجديدة إلى الانتماء إلى كتلة سياسية أو فريق لعبة رياضية.

ويحتمل أن يأتي العامل من الحاجة إلى الدفاع عن النفس ولاسيما حين يدعو بقاء الشخص في مجتمع ما إلى تعديل في قناعات لديه لا تتفق وشروط الحياة في ذلك المجتمع، ثم يلحق بذلك تغير عنده في اتجاه أو أكثر، ويقدم هنا المهاجرون إلى مجتمع جديد أمثلة على هذا التعديل حين تستدعي حياتهم الجديدة تغييراً في اتجاهاتهم نحو حرية سلوك الأولاد ولاسيما الإناث منهم.

وإن تعديل الاتجاه كثيراً ما كان موضع دراسات تجريبية تمكَّن فيها برنامج معد من قبل، ونفذ في حال مجموعة من الأفراد من الطلاب أو العمال، من إحداث تغيير ملحوظ في اتجاه أفراد تلك المجموعة نحو نوع من الدراسة أو العمل: نحو نوع من الدراسات العلمية ونحو نوع من الأعمال اليدوية كانت مجموعة الأفراد لا تفضلها.

وظائف الاتجاهات

تعد الاتجاهات من المكونات الأساسية للشخصية، ويحقق وجودها لدى الشخص مجموعة من الوظائف أهمها ما يلي:

وظيفة إرضاء الحاجات أو إشباعها: يكشف فحص تكوّن الاتجاهات عن أنها ترتبط بمكافآت أو عقوبات رافقت استجابات لدى الشخص بدت في قوله أو فعله مما يتصل بشخص أو فكرة أو مؤسسة أو موضوع اجتماعي،وحين ينال التعزيز دعم استجابته، أي قوله أو فعله أو الأمرين معاً، فإن تكوّن الاتجاه يستمر ويتعمق. فقد غدا يلبي حاجة لدى الفرد، أي غدا له نفع خاص. ويبدو النفع أحياناً في وصول الفرد إلى أهداف عن طريق إظهار اتجاهه، كما يبدو في مساعدة الفرد، أحياناً أخرى، على التكيف مع أوضاع حياتية. ويسمح النفع بالقول عن الاتجاه إنه نفعي، كما تسمح الخدمة التي يقيمها الاتجاه في تكيف صاحبه مع ظروف طارئة بالقول إنه- أي الاتجاه- تكيفي، وظهور السلوك المعبر عن الاتجاه، في الحالين، هو دليل على أن السلوك يلبي أو يشبع حاجة أو حاجات لدى الفرد. ومثال ذلك الاتجاه الإيجابي القوي الذي ظهر عند طالب نحو الرياضيات، على صورة تفضيل مرتفع الشدة، والذي بدأ يتكون بعد حصوله على علامات عالية في امتحانات الرياضيات، وبعد تعزيز جاء من ثناء صدر عن المعلم. ومثال ذلك أيضاً تفضيل عامل ما حزباً سياسياً بعد أن عرف أن ذلك الحزب يناضل في سبيل مصلحة الإنسان العامل.

الوظيفة التقويمية: تظهر الوظيفة التقويمية للاتجاه من ناحيتين: الأولى متضمنة في تفضيل الاتجاه أمراً -أو عدم تفضيله- مما يدل على أن لذلك الأمر قيمة ما لدى صاحب الاتجاه (قيمة إيجابية أو قيمة سلبية). من هذه الزاوية فإن الفرد الذي يكون اتجاهه نحو الديمقراطية اتجاه تفضيل، وهو يعبر عن حسنات الديمقراطية اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وغير ذلك، يرى أن في تفضيله تعبيراً عن تقويم عال للديمقراطية. أما الناحية الثانية فتكون في دلالة الاتجاه على قيم معينة لدى الشخص، أو نظام قيم، ويبدو الشخص في اتجاهه كأنه يقول معتزاً: هذا أنا، والمثال على هذه الناحية الثانية الاتجاه الظاهر لدى الشخص نحو المساواة بين الرجل والمرأة والذي يكشف فحصه (أي فحص الاتجاه) أنه موجود لدى شخص تكون العدالة في مكان عال بين قيمه ويكون احترامه لإنجازات المرأة في الأسرة واقتصاد الأسرة في المجتمع وفئاته احتراماً يقع في الصدارة في قيمه.

وظيفة الدفاع عن «الأنا»: الأصل في الاتجاه أنه نظام يظهر في أنماط من السلوك بينها تناسق وفيها مستوى مقبول من الثبات، وذلك على الرغم من وجود اختلاف في الظروف التي يمكن أن يظهر فيها موضوع الاتجاه. ومثال هذه الحال اتجاه شاب نحو مهنة التعليم وكيف يبدو هذا الاتجاه في مناقشة يسهم بها هذا الشاب وفي تعامله مع المعلمين وفي سلوكه المعبر عن اختيار المهنة. إن هذه الوظيفة يؤديها الاتجاه في توفير التناسق بين مكونات «الأنا»، الذي يتعامل مع الواقع لدى صاحب الاتجاه، وفي دعم تقرير الذات لدى هذا الشخص وهو يدافع عن نفسه أمام ظروف الحياة ولاسيما حين يكون هذا الاتجاه الحجة التي بها يواجه الشخص ظروف الواقع وحين يقول: «هذا أنا».

الوظيفة المعرفية: تساعد الاتجاهات صاحبها في فهم عالمه فهماً يسهم في تكوين الاطمئنان لديه، وفي جعل حوادث هذا العالم ذات معنى خاص. إنها توفر للشخص نوعاً من الثبات والوضوح في رؤية العالم وتفسير حوادثه. إن هذا القول لا يعني أن الاتجاهات تقدم صورة صحيحة عن العالم، بل يعني أن الصورة ذات معنى لمن يدرك العالم بوساطة اتجاهاته. وأن هذه الصورة تقدم نوعاً من الإطار أو الأساس لمعارف جديدة يصل إليها صاحب الاتجاه ويسعى إلى إدخالها في نظام اتجاهاته أو قناعاته. أي أن يضمها ضم تنسيق إلى ما كان لديه من قبل. من هذه الزاوية يؤدي الاتجاه الإيجابي لدى الشخص نحو العمل اليدوي خدمة في الوصول إلى مجموعة غنية من المعارف عن قيمة العمل اليدوي في الدخل القومي وفي خدمة مجتمعه وخدمة الإنسانية، ومن هذه الزاوية كذلك يمكن فهم سعي صاحب الاتجاه نحو نظام اقتصادي ما إلى الحصول على مزيد من المعارف عن ذلك النظام.

وظيفة الانتماء والتوحد مع الآخرين: يربط الاتجاه بين الفرد ومجتمعه، أو فئة من ذلك المجتمع، ويدعم شعور ذلك الفرد بالانتماء إلى ذلك المجتمع أو تلك الفئة وشعوره بأنه مثل الآخرين ويؤلف وحدة معهم، بهذه الصورة يمكن فهم وظيفة الاتجاه الإيجابي نحو القومية الموجود لدى الشخص في توحده مع الآخرين في مجتمع ساده الفكر القومي، كما يمكن فهم وظيفة الاتجاه الإيجابي نحو حكومة الخدمات في مجتمع يغلب على مظاهر حياته الأخذ بسياسة حكومة الخدمات. وحين يراجع الباحث ما جاء في دراسات الشخصية من أن الانتماء حاجة عميقة من حاجات الشخص، فإنه يدرك أهمية هذه الوظيفة التي يقوم بها الاتجاه في خدمة صاحبه.

الاتجاهات وبعض الظواهر النفسية الوثيقة الصلة بها:

بين الاتجاهات وعدد من الحالات أو الظاهرات النفسية أشكال من التفاعل والترابط مع وجود أشكال من التباين والاختلاف. وإن مما يوفر مزيداً من البيانات في فهم الاتجاهات ومكوناتها الوقوف عند خمس من هذه الظاهرات، هي: الدوافع والميول والاعتقادات والقيم والآراء، في محاولة لبيان ما بينها وبين الاتجاهات من اختلاف مع الاعتراف بأن نقطة الاختلاف ليست دائماً واضحة كل الوضوح.

الاتجاهات والدوافع: يتكرر في الدراسات النفسية القول: إن وراء كل سلوك دافعاً أو أكثر يحرض ذلك السلوك ويستثيره ويوجهه. ويكون السؤال هنا: ما مكانة الدوافع في الاتجاهات؟

إن لدى الشخص الكثير من الاتجاهات، ولكنها لا تعمل باستمرار ولا تكون باستمرار في مستوى الشعور بل يمكن أن تكون وراء الشعور في نوع من «النوم» أو «الحفظ» على أن يأتي ما يستثيرها. وقد يأتي المثير من الداخل وقد يأتي من الخارج، ويكون النظر إلى الاتجاه في الحالتين على أنه «تهيؤ» أو «نزوع» لتحريك السلوك باتجاه معين. فإذا وجد المؤثر، مثل ظهور فكرة تتصل بالكتل السياسية لدى شخص يناقش الموضوع بينه وبين نفسه أو يناقشه مع آخر، فإن هذا المؤثر يستثير الدافع للاستجابة، ويستثير الدافع بدوره ذلك التهيؤ. ومن هنا يقال إن الاتجاه تهيؤ لسلوك يدعو إليه دافع ما، أو أكثر، والمؤثر هو الذي يحرض الدافع. ومن هنا يقال كذلك إن مثل هذا السلوك سلوك موجه بالاتجاه الموجود لدى الشخص، وهو موجه لتنفيذ ما يعبر عن ذلك الاتجاه. والدافع قوة داخلية، وشدته اللاحقة بشدة تحريضه من المؤثر تنعكس على شدة ظهور الاتجاه. والاتجاه نفسه قوة كذلك لما يتضمنه من اعتقادات وقيم وعواطف، فإذا بدأ تحقيق وظيفته وتوجيه السلوك، فإنه يغدو قوة تتفاعل مع قوة الدافع وتتعاون معها. ومع ذلك يبقى الدافع مختلفاً عن الاتجاه من حيث هو حالة أو حادثة نفسية.

الاتجاهات والميول أو الاهتمامات

يكشف فحص اهتمام الشخص بشيء ما عن رغبة يحتمل فيها أن تكون في واحد من طرفين: الرغبة في الحصول على ذلك الشيء أو الرغبة في البعد عنه وتفاديه (راغب فيه، أو راغب عنه). والرغبة ظاهرة يراها علماء النفس لاصقة بمصطلح الاهتمام أو دالة عليه. فالرغبة في الشيء تعبير عن الاهتمام به أو الميل إليه، أو عن الاهتمام بتفاديه أو الميل عنه. ومن هذا المنظور، وبسبب من أن ظهور الاهتمام أمام عين الدارس أكثر سهولة من ظهور الميل، غدت دراسات نفسية كثيرة تستعمل مصطلح الاهتمام interest بدل مصطلح الميل للمعنى نفسه.

والغالب في الاهتمام، أو الميل، الصبغة الانفعالية التي ترافق سلوك الشخص نحو موضوع اهتمامه: إنه يبدو محباً لذلك الموضوع أو نافراً منه، منجذباً إليه أو مبتعداً عنه. والصبغة الانفعالية، كما ذكر من قبل، موجودة في الاتجاه. ثم إن في الاهتمام صبغة عقلية تبدو واضحة حين يقدم الفرد مسوغات عقلية كذلك. ولكن هنا فرقاً أو اختلافاً، مع ذلك بين الحالتين،ويظهر هذا الفرق في أمور أهمها أربعة:

الأول أن الصبغة العقلية تغلب على الاتجاه وتكون الصبغة الانفعالية ضعيفة، وأن الصبغة الانفعالية غالبة على الميل أو الاهتمام وتكون الصبغة العقلية ضعيفة. والأمر الثاني هو الاختلاف في درجة الثبات والاستمرار: فالاتجاه أكثر ثباتاً في النفس واستمراراً في حياة الفرد مما عليه الحال في الاهتمام. أما الأمر الثالث: فالاختلاف في الموضوع أو الهدف: فالغالب على موضوعات الاتجاهات أنها اجتماعية وأن العناية بها في المجتمع واضحة والحال ليست كذلك في موضوع الاهتمام أو هدفه: إذ يحتمل كثيراً أن يكون موضوع الاهتمام شيئاً يخص الشخص وحده. وأما الأمر الرابع فهو أن الاتجاه أكثر عمقاً في بناء الشخص وأشد أثراً من الاهتمام وذلك بسبب من غلبة الصبغة العقلية على الاتجاه ومن توظيف الاتجاه قناعات الشخص واعتقاداته حين يغدو هذا الاتجاه قائماً عنده.

الاتجاهات والاعتقادات: الاعتقادات أحكام ضمنية أو ظاهرة تدل على وجهة نظر للشخص بشأن خاصية أو خصائص لشيء ما أو أمر ما. إنها تعبر عن الصحة أو الخطأ فيما ينسب إلى ذلك الشيء أو الأمر، أو إنها تثبت في الذهن علاقة بين ذلك الشيء أو الأمر وبعض الخصائص. ومثال ذلك الاعتقاد بأن متحدثاً يروي حادثة ما صادق فيما يقول. يضاف إلى ذلك أن الاعتقادات أفكار تعبر عن نوع من الأحكام المعرفية أو عدة محاكمات، وأنها لا تحمل الصبغة الانفعالية في أعماقها. أما الاتجاهات فلكل منها موضوعه وهو أوسع من موضوع الاعتقاد في تنوع حالات ظهوره ثم إن في الاتجاه من الصبغة الانفعالية ما لا يوجد في الاعتقاد على وجه العموم. ومع ذلك فإن من اللازم القول إن الاتجاه الواحد يلخص أو يختص أو ينطوي على عدة اعتقادات ولكن من دون أن يقف عندها أو يتطابق مع كل منها: فقد يبدو الاتجاه مختلفاً مع اعتقاد يكون جزءاً أو طرفاً من عدة اعتقادات ينطوي عليها الاتجاه.

الاتجاهات والقيم: تؤلف القيم نظاماً عميق المكانة في بنية الشخصية، ومن بين النظريات في طبيعة الشخصية النظرية القائلة إن الشخصية نظام قيم. والقيم متنوعة بينها العقلي، والاجتماعي، والأخلاقي، والجمالي، والاقتصادي وغير ذلك. ويوضح تحليل أي منها على أنها تعبر عن هدف حياتي وأنها معيار لسلوك الفرد. إن المال لدى شخص لا يهمه إلا المال يعبر عن أن للمال لديه قيمة ترتفع فوق كل القيم الأخرى وتؤثر في تنظيمها في بنية شخصيته. وحين يفحص قوله وفعله يرى أن المال معيار لديه يحكم عن طريقه على كل أنماط سلوكه المختلفة. والاتجاه لا يؤلف معياراً للسلوك، ولا يكون هو ذاته هدفاً حياتياً. ومع ذلك فإن من الممكن القول إن الاتجاه تعبير داخلي عن قيمة أو مجموعة قيم وإن عمق القيم ونظام عموميتها من حيث الموضوعات التي تتناولها أعظم مما هي الحال في الاتجاهات.

الاتجاهات والآراء: الرأي مصطلح قريب من مصطلح الاتجاه ولاسيما في حديث الإنسان العادي في مناسبات الحياة اليومية. يضاف إلى ذلك أن الآراء كثيراً ما تعتمد في الكشف عن الاتجاه أو الاتجاهات لدى شخص ما وضع موضع الملاحظة أو في دراسة علمية عن الاتجاهات لدى مجموعة من الأشخاص. وكثيراً ما أوردت قياسات الرأي العام أن نتائجها- الخاصة بالرأي العام- تعبر عن اتجاهات الناس نحو هذا الحزب أو ذاك. ونحو هذا المرشح لرئاسة الجمهورية أو ذاك. والرأي حكم شخصي يطلق على شخص أو حادثة أو علاقة أو غير ذلك في مناسبة أو ظروف ما ويعبر عما يراه الشخص بشأن ما يطلق رأيه عليه. فإذا اتجه البحث إلى المقارنة بين الاتجاه والرأي، تبين أن الاختلاف بينهما يمكن أن يظهر في أربع نقاط. الأولى أن الرأي حكم محدد يطلق على حادثة محددة في مناسبة ما، والأمر ليس كذلك في الاتجاه الذي يعد تهيؤاً للسلوك باتجاه ما نحو أمر ما يمكن أن يظهر ضمن شروط متنوعة وفي مناسبات مختلفة. والثانية أن الصبغة الانفعالية المرافقة للسلوك المعبر عن الاتجاه هي أكثر بروزاً أو ظهوراً من الصبغة الانفعالية في الرأي، مع العلم أن العوامل الانفعالية، مثل المشاعر وغيرها. يمكن أن تتدخل في تكون رأي ما كما يمكن أن تتدخل في تكون اتجاه ما. والنقطة الثالثة أن من الممكن التأكد من صحة الرأي أو الخطأ فيه أي من التطابق بين حكم صاحب الرأي وواقع الحال أو الأمر الذي يطلق عليه الحكم، أما الاتجاه فلا تتوافر الفرص فيه للتحقق من صحته بعد التأكد من وجوده لدى صاحبه. فمن الممكن التأكد من صحة رأي يقول إن دولة «س» خسرت مئة دبابة في الأيام الأولى من حربها مع «ع»، ولكن مثل هذا التأكد غير وارد حين يعبر شخص عن اتجاهه الذي ينطوي على استهجان الحرب ونفوره منها. وأما النقطة الرابعة فهي أن الرأي سلوك واضح يوضع موضع الملاحظة مباشرة، أما الاتجاه فتهيؤ ضمني لا يلاحظ مباشرة بل تدل عليه أنماط من السلوك بينها الآراء.

دراسة الاتجاهات وقياسها:

دراسة الاتجاهات: ورد في فقرات سابقة أن الاتجاهات لا تخضع للملاحظة مباشرة وأن كشفها يكون عن طريق أنماط السلوك المعبرة عنها.

وهناك خمس طرائق شائعة في دراسة الاتجاهات.

تعرف الطريقة الأولى بأنها نظرية وأنها دراسة موجهة بفكرة تكوين نظرية حول الاتجاهات. ويهتم الباحث الآخذ بهذه الطريق بتكون الاتجاهات والعوامل في ذلك، وتعديل الاتجاهات وكيف يأخذ مجراه، والتفاوت في الاتجاهات من جانبها الإيجابي وجانبها السلبي، لينتهي إلى وضع نظرية حول طبيعة الاتجاهات ومكانتها في نظام الشخصية. وكثيراً ما يستفيد الآخذ بهذه الطريقة من نتائج دراسات تفصيلية سلكت طرائق أخرى في الدراسة الخاصة بالاتجاهات.

وتعرف الطريقة الثانية بأنها وصفية قائمة على الملاحظة. وتبدو هذه الطريقة واضحة في تنظيم ملاحظة علمية متعددة الخطوات والتكرار تتناول سلوك مجموعة من الأفراد تكون اتجاهاتهم موضوع الدراسة وتكون الغاية سبر تلك الاتجاهات لديهم ووصفها. وكثيراً ما يتم اعتماد هذه الطريق في دراسة اتجاه مجموعة من الأطفال نحو لعبة ما من الألعاب الرياضية. ولكن هذه الطريق تواجه صعوبات عادة بسبب من الوقت الذي تستغرقه الملاحظة ويحتاج إليها تكرارها, وكذلك بسبب من صعوبة تدريب الأشخاص على القيام بملاحظة علمية دقيقة.

أما الطريقة الثالثة فهي الطريقة التجريبية، وفيها تنظيم تجربة موضوعها أمر علمي ما تنظيماً يوفر فيه شروط الضبط والتحكم بالمتغيرات وإمكان استخراج النتائج بلغة الكم. ويغلب أن تنظم التجربة للتحقق من فرضية تم تأليفها من قبل. وكثيراً ما تعتمد هذه الطريقة في التعرف على الاتجاه الذي يتكون لدى الطلبة نحو مهنة أو موضوع دراسي بعد تعرضهم لمؤثرات كثيرة تبرز خيرات ذلك الموضوع أو تلك المهنة.

وفي الطريقة الرابعة تعتمد دراسة الاتجاهات على الاستفتاء الذي يتناول مجموعة كبيرة من الأفراد في مجتمع ما. وفي الاستفتاء استطلاع للرأي العام، وفي تجمع الآراء حول أنماط من السلوك تعبر عن اتجاه ما دليل على ذلك الاتجاه: على منحاه الإيجابي، التفضيل الإيجابي، أو على منحاه السلبي وما فيه من عدم تفضيل.

ويكون القياس الطريقة الخامسة التي تعتمد في دراسة الاتجاهات, وهي أكثر الطرائق استخداماً. هنا تعتمد دراسة الاتجاهات، على مقياس علمي موثوق أعد من قبل، لكشف اتجاه شخص، أو مجموعة أشخاص، نحو موضوع ما انطلاقاً من الإجابات التي تقدم استجابة لعبارات المقياس.

قياس الاتجاهات: يعتمد قياس الاتجاهات على الإجابات التي يقدمها الشخص عن عبارات نظمت تنظيماً علمياً دقيقاً في مقياس خضع لإجراءات علمية معينة قبل أن يعد مقياساً موثوقاً. وقد تأخذ العبارة صيغة سؤال، وقد تكون بيانية وصفية. وتتناول العبارات في المقياس الواحد كل الجوانب والتفصيلات المتصلة بموضوع الاتجاه وما يحتمل أن يظهر من أنماط في السلوك المعبر عن ذلك الاتجاه. وينظم المقياس تنظيماً يسمح بوضع إشارة بسيطة، أو كتابة كلمة، أمام كل عبارة تبين مدى انطباق تلك العبارة على حاله، مع العلم أن «المدى» يوضع في درجات من شدة الموافقة إيجاباً وسلباً: أوافق بشدة عظيمة. حتى.. لا أوافق أبداً. كذلك ينظم المقياس تنظيماً يسمح بنقل إجابات الشخص إلى لغة الكم. والفكرة الأساس في المقياس هي أن الشخص يقدم تقريراً عن ذاته حين يقول إنه يوافق بشدة على ذلك الأمر، وأن المقياس يشمل في عباراته شمولاً مناسباً عينة جيدة من أنماط السلوك التي يظهر الاتجاه عن طريقها وتعبر عنه.

ولما كانت الاتجاهات كثيرة لدى الأشخاص، وكانت موضوعاتها مختلفة، فإن قياس هذه الاتجاهات يحتاج إلى عدد كبير من المقاييس يكون كل منها معد لاتجاه ما. وانطلاقاً من تنوع المجتمعات والاختلافات بينها في النمط الثقافي، وتنوع الدراسات العلمية، وتنوع الطرائق في حساب النتائج في المقاييس وفي صوغ عباراتها، فإن هناك تنوعاً كبيراً في المتوافر من المقياس في العالم لاتجاه واحد.

وفي مقدمة الطرائق المعتمدة في حساب النتائج الكمية للمقياس طريقتان: تعرف الأولى باسم ثورستون Thurstone الذي بدأ بها، وتعرف الثانية باسم ليكرت Likert الذي اعتمدها في المقاييس التي بناها لعدد من الاتجاهات. وتقوم طريقة ثورستون على استخراج القيمة السلَّمية (أي القيمة ضمن السلَّم) للإجابة الخاصة بالعبارة انطلاقاً من قيمة الوسيط في إجابات المجموعة التي تم اعتمادها في بناء المقياس. ولما كانت قيمة الوسيط هي القيمة التي تقابل الإجابة التي تقع فوقها 50% من الحالات وتحتها 50% من الحالات، فإن المحصلة لإجابات المفحوص تكون بجمع القيم السلّمية التي حصل عليها كل من إجابات لدى مقارنتها مع القيم السلّمية الموضوعة للمقياس المعد علمياً من قبل.

أما طريقة ليكرت، وهي الأكثر استعمالاً في البحوث النفسية والتربوية فتقوم على منح قيم كمية محددة لكل درجة من درجات الإجابة عن العبارة الواردة في المقياس، وينطلق منح إجابة المفحوص قيمة كمية من ذلك الأساس. فإذا كانت الإجابات المختلفة منظمة في المقياس على أساس درجة من خمس درجات أعلاها «أوافق بشدة»، وأدناها «أخالف بشدة» (الموافقة والمخالفة كل منهما تعبير يقدمه الشخص المفحوص عن نفسه) وكانت القيم الكمية ممنوحة ما بين 5 علامات وعلامة بالتدرج، فإن إجابة شخص عن عبارة ما بقوله أوافق تكون 4 علامات، ويكون مجموع العلامات التي حصل عليها نتيجة إجابات عن كل عبارات المقياس هو التعبير عن مستوى شدة وجود الاتجاه لديه، أي الاتجاه موضوع القياس.

أما إذا صيغت بعض الأسئلة صوغاً سلبياً فيجب البدء بقلب الأجوبة حتى تعد اتجاهاً إيجابياً أو سلبياً، ويسهل تطبيق ذلك عندما تكون درجات ليكرت ثلاثاً.